وأمّا الإرادة ، فربّما تحصل له بقدرة وإرادة سابقة ، كالمتروّي في طلب أصلح الوجوه ، فإنّه بعد علمه بالوجوه يقصد إلى فرض وقوع واحد واحد منها بفكره ، الذي يصدر عنه أيضا باختياره ، لينكشف الصلاح والفساد فيها ، فتحصل له الإرادة بما يراه أصلح.
وهذه الإرادة مكتسبة له. أمّا أسباب كسبها ، وهي القدرة على الفكر وإرادته والعلوم السابقة ، فبعضها يحصل أيضا بقدرة وإرادة ، لكنّها لا تسلسل ، بل تقف عند أسباب لا تحصل بقدرته وإرادته. ولا شكّ أنّ عند حصول الأسباب يجب الفعل وعند فقدانها يمتنع. فالذى ينظر إلى الأسباب الأول ويعلم أنّها ليست بقدرة الفاعل وبال بإرادته ، يحكم بالجبر. وهو غير صحيح مطلقا ، لأنّ السبب القريب للفعل هو قدرته وإرادته. والذي ينظر إلى السبب القريب يحكم بالاختيار. وهو أيضا ليس بصحيح مطلقا ، لأنّ الفعل لم يحصل بأسباب كلّها مقدورة ومرادة. والحقّ ما قاله بعضهم (عليهمالسلام) : «لا جبر ولا تفويض ولكنّ أمر بين أمرين» (التوحيد ، ص ٣٦٢) ، وأمّا في حقّ الله تعالى ، فإن أثبتت له قدرة وإرادة متباينتان ، لزم ما يلزم هاهنا من إمكان نقص. لكنّ صدور أفعاله تعالى عنه ليس موقوفا على كثرة. إنّما هو سبب وجود الكثرة. فلا يتصور هناك إيجاب ولا اختيار». انتهى كلامه بعبارته ، (ص ٤٥).
ومن المستعجب أنّ إمام المتشككين أيضا ودّع أصحابه في «المطالب العالية» وسار بنظره مسير مذهب التحقيق في هذا المرصد. ولقد حكى عنه فاضل تفتازان في («شرح المقاصد» ، ج ، ص) كلاما له بهذه العبارة : «إنّ حال هذه المسألة عجيبة ، فإنّ الناس كانوا مختلفين فيها أبدا ، بسبب أنّ ما يمكن الرجوع إليه فيها متعارضة متدافعة. فمعوّل الجبريّة على أنّه لا بدّ لترجيح الفعل على الترك من مرجّح ليس من العبد ؛ ومعوّل القدريّة على أنّ العبد لو لم يكن قادرا على فعله لما حسن المدح والذّمّ والأمر والنهى ، وهما مقدّمتان بديهيّتان.
ثمّ من الدلائل العقليّة اعتماد الجبريّة على أنّ تفاصيل أحوال الأفعال غير معلومة للعبد ، واعتماد القدريّة على أنّ أفعال العباد واقعة على وفق قصودهم ودواعيهم ، وهما متعارضتان. ومن الالزامات الخطابيّة : أنّ القدرة على الإيجاد صفة كمال لا يليق بالعبد الذي هو منبع النقصان وأنّ أفعال العباد تكون سفها وعبثا ، فلا يليق بالمتعالى عن النقصان.