وأمّا الدلائل السمعيّة ، فالقرآن مملوّ بما يوهم بالأمرين ، وكذا الآثار ، فإنّ أمّة من الأمم لم تكن خالية من الفرقتين ، وكذا الأوضاع والحكايات المتدافعة من الجانبين. حتّى قيل: إنّ وضع النرد على الجبر ووضع الشطرنج على القدر. إلّا أنّ مذهبنا أقوى ، بسبب أنّ القدح في قولنا : «لا يترجّح الممكن إلّا بمرجّح» يوجب انسداد باب إثبات الصانع. ونحن نقول : الحقّ ما قال بعض أئمّة الدين : «إنّه لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين».
وذلك لأنّ مبنى المبادى القريبة لأفعال العباد على قدرته واختياره. والمبادى البعيدة على عجزه واضطراره. فالإنسان مضطرّ في صورة مختار ، كالقلم في يد الكاتب والوتد في شقّ الحائط. وفي كلام العقلاء : قال الحائط للوتد : لم تشقّنى؟ قال : سل من يدقّنى؟» هذا كلامه المحكىّ.
قلت : ما أورده ، من معوّل الجبريّة وأولئك هم القدريّة حقّا ، ليس ممّا يصحّ التعويل عليه أصلا. أليس الاحتياج إلى مرجّح من خارج غير مصادم لكون قدرة العبد وإرادته ممّا يتوقّف عليه فعله ، ووجوب الفعل بالقدرة والاختيار ليس ينفى ثبوتهما ، بل إنّه يشهد لهما بالتحقّق ويسجّل على ذلك بتّة. وما ذكره من معتمدهم غير حفىّ الوهن على المتبصّرين.
وليعلم أنّ المشهور لدى الجمهور أنّه سلك هذا المسلك وسار هذا المسير من المعتزلة أبو الحسين البصريّ فقال : الفعل موقوف على الداعى. فإذا تحققت القدرة وانضمّ إليها الداعى صار مجموعهما علّة موجبة للفعل. وهو مذهب الحكماء ، واختاره أيضا إمام الحرمين ، فذهب إلى أنّ فعل العبد يقع بقدرته إيجابا. وكذلك الأستاذ أبو إسحاق الأسفراينىّ ، إذ ذهب إلى أنّ وقوع الفعل بمجموع القدرتين الإلهيّة والإنسانيّة. وإنّ حامل عرش التحصيل والتحقيق يقول : لا خلاف بين الحكماء والمعتزلة في هذه المسألة. ويأتمّ به في ذلك أكثر من بعده من الأتباع المحصّلين.
قال في «شرح المقاصد» ، (ص ...) : «فعل العبد واقع عند الحكماء بقدرة يخلقها الله تعالى في العبد. ولا نزاع للمعتزلة في أنّ قدرة العبد مخلوقة لله تعالى ، وشاع في كلامهم : أنّه خالق القوى والقدر ، فلا يمتاز مذهبهم عن مذهب الحكماء. ولا يفيد ما أشار إليه في «المواقف» ، من أنّ المؤثّر عندهم قدرة العبد ، وعند الحكماء مجموع