فإذا وصل العارف إلى هذا [١٨ ب] المقام ـ وليس وراء عبّادان قرية ـ رأى كلّ وجوب مستغرقا في الوجوب بالذّات ، وكلّ وجود في الوجود بالذّات ، وكلّ علم في العلم بالذّات ، وكلّ قدرة في القدرة بالذات ، وكلّ إرادة واختيار في الإرادة والاختيار بالذّات ، وكلّ حياة في الحياة بالذّات ، فيصبح كلّ وجود وكلّ كمال وجود صادرا عن واجب الوجود بالذات ، فائضا من لدنه تعالى ، بل مستهلكا في حضرته ، بحيث لا يستحقّ غيره اسم الوجود ، فيصير الحقّ تعالى للعارف بصره الّذي به يبصر ، وسمعه الّذي به يسمع ، [١٩ ظ] ويتمّ هناك التّخلّقّ بأخلاق الله بالحقيقة.
ويعجبنى في التعبير عن هذه المراتب قول الشيخ أبى نصر الفارابيّ : «إنّ لك منك غطاء ـ فضلا عن لباسك ـ من البدن ، فاجتهد أن تتجرّد ، فحينئذ تلحق ، فلا تسأل عمّا تباشره ، فإن ألمت فويل لك وإن سلمت فطوبى لك ، وأنت في بدنك ، كأنّك لست في بدنك. وكأنّك ترى من صقع الملكوت ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، فاتّخذ لك عند الحقّ عهدا إلى أن تأتيه فردا («فصوص الحكم» ، ص ٦٨).
وقوله (ص ٦٠) : «إذا كان مرتع بصرك ذلك الجناب ، ومذاقك (١٩ ب) من ذلك الفرات كنت في طيب ثمّ تدهش. انفذ إلى الأحديّة تدهش إلى الأبديّة.»
وصاحب («الإشارات» ، ص ٣٩٠) ، جمع مقامات العارفين في هذه العبارة : «العرفان مبتدأ من تفريق ونفض وترك ورفض ، ممعن في جمع هو جمع صفات الحقّ للذات المريدة للصدق ، منته إلى الواحد الحقّ تعالى ثمّ وقوف» فهذه درجات التزكية.
وأمّا درجات التحلية ، فجمعها بقوله : «من آثر العرفان للعرفان فقد قال بالثانى ، ومن وجد العرفان ، كأنّه لا يجده ، بل يجد المعروف به ، فقد خاض لجّة الوصول. وهنالك درجات [٢٠ ظ] ليست أقلّ من درجات ما قبله ، آثرنا فيها الاختصار ، فإنّها لا يفهمها الحديث ، ولا تشرحها العبارة ، ولا يكشف المقال عنها غير الخيال. ومن أحبّ أن يتعرّفها فليتدّرج إلى أن يصير من أهل المشاهدة دون المشافهة ، ومن الواصلين إلى العين دون السّامعين للأثر.» (ص ٣٩٠) انتهى ، فليتبصّر.
ثمّ معاشر الإخوان ، إنّ لى عندكم عهدا وعليكم ميثاقا ، أشهد الله به على و