وإنّ أقدم اللّذين من رؤساء الحكماء فى الإسلام شاركانا من قبل فى تعليم الحكمة وتقويمها وتصحيح الفلسفة وتتميمها ، وهو الشّيخ أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان الفارابىّ ، أصرّ واستمرّ فى كتاب «الجمع بين الرأيين» على أنّ معلّم المشّائية أرسطاطاليس لم يخالف أستاذه إمام الحكمة أفلاطون الإلهيّ ، فى حدوث العالم وكون البارى الحقّ صانعا له، على أنّ صدوره عن إحداث البارئ الصّانع ، جلّ سلطانه ، إيّاه دفعة لا بحركة ولا بزمان ولا آن ، وأنّه لم يجز فى أقاويله قطّ ما يستفاد منه القول بقدم العالم.
بل إنّما فى أقاويله نفى البدو الزّمانىّ عن العالم. ومعناه : أنّه محال أن يكون لحدوث العالم بدء زمانىّ وأن يكون حدوثه حدوثا زمانيّا فى زمان أو آن وعلى سبيل تدريج وتكوّن شيئا فشيئا أو على سبيل الكون دفعة آنيّة ، بل إنّما حدوث الكلّ عن إرادة البارئ ، سبحانه ، وعن إبداعه ، جلّ جلاله ، إيّاه دفعة بلا زمان وآن ولا عن شيء ومادّة. وذلك هو بعينه ما ذهب إليه أفلاطون وبيّنه فى كتبه وجاءت به الشّرائع.
وليس لأحد من أهل المذاهب والنّحل والشّرائع. وسائر الطّرائق من العلم بحدوث العالم وإثبات الصّانع وتلخيص أمر الإبداع وأنّ الصّانع ، جلّ جلاله ، أحدث العالم عن إرادته لا بزمان وحركة ولا عن شيء أصلا ، ما لأرسطاطاليس وقبله لأفلاطون ولمن سلك سبيلهما.
وقال : «إنّ الّذي دعى هؤلاء إلى هذا الظنّ القبيح المستنكر بأرسطاطاليس الحكيم، هو ما قاله فى كتاب «طوبيقا» : انّه قد تكون مسألة واحدة يؤتى بكلا طرفيها بأقيسة جدليّة. مثال ذلك : هل العالم قديم أم ليس بقديم؟
وقد ذهب على هؤلاء المختلفين أنّ الّذي يؤتى به على سبيل المثال لا يجرى مجرى الاعتقاد ؛ وأنّ غرض أرسطوطاليس فى كتاب «طوبيقا» ليس هو بيان أمر العالم ، لكنّ غرضه بيان أمر القياسات المتركّبة من المقدّمات الجدليّة. وكان قد وجد أهل زمانه يتناظرون فى أمر العالم : هل هو قديم أو محدث ، كما كانوا يتناظرون فى اللّذة ، هل هي خير أم شرّ ، وكانوا يأتون على كلا الطّرفين من كلّ