وأمّا أنا فلا أقلّد في ما أعتقده إلا الحقّ ولا أتّبع إلّا البرهان. فللحقّ أهل يجدون العقل عليه دليلا ، وللباطل أهل لا يستطيعون إلى الحقّ سبيلا. ولو لا أنّ ثبّتنى ربّى لقد كدت أركن إليهم شيئا قليلا.
وإذ قد بلغ فحص الحقّ بنا إلى هذا النصاب ، فلنختم عليه التّرعة الأولى ، من المساق الأوّل ، ونأخذ في ابتداء القول من التّرعة الثانية. وعالم العقل لنا بفضل الله ورحمته كالمشرعة ، والقوّة النظريّة كانسانيّة. فقد تولّينا أرصادا عقليّة رصدنا فيها مسير كوكب التحقيق في فلك الحكمة وسير نجم الحقّ على معدّل نهار التحقيق بآلات رصديّة [٢٦٤ ظ] ، من تقويم الفكر وتلطيف السرّ وتهذيب النفس وتخليص العقل عن الوهم صالحة للرصدين الحدسىّ والفكريّ ، متخذين ، ذات شعبتين ، من النفس المجرّدة ، وذات حلق من القوّة العاقلة ، وذات ثقبتين من القوّة النظريّة ، وأسطرلابا من العقل الخالص ، وربعا مجيّبا من السّرّ النقيّ ، ومقياسا من البرهان الصريح ، وفرجارا من الوجد أن الصحيح ، ومسطرة من سلامة الفطرة واستقامة الفطنة ، وحلقة إسكندريّة من دائرة اليقين على جيب النظر البالغ وقطر القول المبين.
ولا بدّ لمدرك الحقّ من أن يضع لزنة العلم ميزانا [١٦٤ ب] من الطبع المستقيم ، ومعيارا من الذوق السليم مع إهمال لجانب البدن ورفض لجهة الطبيعة. فليكن عندك سنّة عقليّة في مطالعة هذه التّرعة ، بل ترع هذا الكتاب على العموم لا تتعدّاها ، هي أنّه متى ما ضاق عليك الأمر في نيل المرام وإذعان الحقّ من بعد فقه الكلام.
فعليك أن تهاجر كورة الطبيعة وتجاهد بغاة العقل ، من القوى الوهميّة والخياليّة ، وترفض أعداء الله فيك ، من الدواعى الجسميّة والصوارف البدنيّة وتستهتك الجلابيب الجسدانيّة والغواشى الهيولانيّة وتستحقر البهجة [٢٦٥ ظ] الجسديّة واللّذة المزجيّة. فعساك تنفصل عن عالم الغرور ، وتتصل بالملإ الرفيع حول حضرة القدس بالأفق الأقصى ، وتفارق أصفاق إقليم الزور ، وتتمسّك بجناب ربّك الأعلى ، فيتيسّر لك أن تشاهد فضاء الملكوت من كوّة النفس الناطقة عين العقل المستفاد. وهناك يتهيّأ لعقلك أن يسبح في نهر علم اليقين ، فيصل إلى شاطئ حقّ اليقين.
وإذ دريت أنّ مغناطيس درك الحقّ هو صدع غيم القلب بالبروق الخاطفة