الحقّ وعالم القدس ، لم يكن لبنطاسياها سبيل إلى التّطبّع بالصّورة من تلقاء واهب الصّور ، إلّا من مسلك الحاسّة الظاهرة ومثول المادّة الخارجيّة بين يدها.
فأمّا إذا كانت قدسيّة الفطرة ، مستنيرة الغريزة في جوهر جبلّتها المفطورة ثمّ فى سجيّتها المسكوبة ، صارت نقيّة الجوهر ، طاهرة الذّات ، أكيدة العلاقة بعالم العقل ، شديدة الاستحقاق لعلم الحسّ ، قاهرة الملكة ، قويّة المنّة على خلع البدن ورفض الحواسّ والانصراف إلى صقع القدس حيث شاءت ومتى شاءت بإذن ربّها ، وقوّتها المتخيّلة أيضا قليلة الانغماس في جانب الظّاهر ، قويّة التلقّى من عالم الغيب ، فإنّها تخلص من شركة الطّبيعة ، وتعزل اللّحظ عن الجسد في اليقظة ، فترجع إلى عالمها ، وتتّصل بروح القدس وبمن شاء الله من الملائكة المقرّبين ، وتستفيد من هنالك العلم والحكمة بالانتقاش على سبيل الرّشح ، مرآة مجلوّة حوذى بها شطر الشّمس.
ولكن حيث إنّها يومئذ فى دار غربتها بعد بالطبع ، ولم تنسلخ عن علاقتها الطبيعيّة بتدبير جيوشها الجسديّة وأمورها البدنيّة ، تكون مثلها في ما تناله بحسب ذلك الشّأن وتلك الدّرجة ، تحوّل الملك لها على صورة مادّيّة متمثّلة في شبح بشرىّ ، ينطق بكلمات إلهيّة مسموعة منظومة. كما قال عزّ من قال : «فأرسلنا إليها روحنا فتمثّل لها بشرا سويّا [مريم ، ١٧]. وأعنى بذلك ارتسام الصّورة في لوح الانطباع ، لا من سبيل الظاهر والأخذ عن مادّة خارجيّة ، بل بالانحدار إليه من الباطن ، والحصول عن صقع الإفاضة.
فإذن في السّماع والإبصار المشهوريّين يرتفع المسموع والمبصر من الموادّ الخارجيّة الى لوح الانطباع ، ثمّ منه إلى الخيال والمتخيّلة ، ثمّ يصعد الأمر إلى النّفس العاقلة.
وفى إبصار الملك وسماع الوحى ، وهما الإبصار والسّماع الصّريحان ينعكس الشّأن ، فينزل الفيض إلى النفس من عالم الأمر ، فهى تطالع شيئا من الملكوت مجرّدة غير مستصحبة لقوّة خياليّة أو وهميّة أو غيرهما. ثمّ يفيض عن النّفس إلى القوّة الخياليّة ، فتخيّله مفصّلا منضما بعبارة منظومة مسموعة ، فتمثّل لها الصّورة في الخيال من صقع الرّحمة وعالم الإفاضة ، ثم تنحدر الصّورة المتمثّلة والعبارة المنتظمة من الخيال والمتخيّلة إلى لوح الانطباق ، وهو الحسّ المشترك ، فتسمع الكلام وتبصر