ثمّ أنّه تعالى بعد ردع الكفّار المفتخرين على فقراء المؤمنين بكثرة المال والولد بالبيانات التي كلّها كالمثل في الغرابة والحسن ، وذكر المثلين المتقدّمين ، بيّن سبحانه شدّة شقاوتهم وقساوتهم وعدم تأثّرهم بها بقوله : ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنا﴾ وكرّرنا أو أوردنا على وجوه كثيرة من النظم ﴿فِي هذَا الْقُرْآنِ﴾ صلاحا ونفعا ﴿لِلنَّاسِ﴾ كافة الى يوم القيامة ﴿مِنْ كُلِّ مَثَلٍ﴾ بديع ومعنى عجيب وشبيه ونظير وعبر ودلائل على الحقّ ﴿وَ﴾ مع ذلك ﴿كانَ الْإِنْسانُ﴾ بجنسه وطبعه ﴿أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾ وأشدّه خصومة بالباطل.
قيل : من طبيعة الإنسان المجادلة والمخاصمة ، وبها يقطعون الطريق على أنفسهم ، فتارة يجادلون الأنبياء ولا يقبلون النبوّة والرسالة حتى يقاتلوهم ، وتارة يجادلون في الكتب المنزلة ويقولون : ما أنزل الله على بشر من شيء ، وتارة يجادلون في محكماتها ، وتارة يجادلون في متشابهاتها ، وتارة يجادلون في ناسخها ومنسوخها ، وتارة يجادلون في تفسيرها وتأويلها ، وتارة يجادلون في أسباب نزولها ، وتارة يجادلون في قراءتها ، وتارة يجادلون في قدمها وحدوثها ، إلى غير ذلك حتى لم يفرغوا من المجادلة إلى المجاهدة ، ومن المخاصمة إلى المعاملة ، ومن المنازعة إلى المطاوعة ، فلهذا قال تعالى : ﴿وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾(١) .
﴿وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ
سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً * وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ
وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي
وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (٥٥) و (٥٦)﴾
ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أنّ القرآن جامع لجميع الدلائل والعبر والعلوم ، بيّن تمامية الحجّة على النّاس به ، وعدم تصوّر العذر لهم في ترك الإيمان بقوله : ﴿وَما مَنَعَ النَّاسَ﴾ من ﴿أَنْ يُؤْمِنُوا﴾ بالله ورسوله ودينه الحقّ ﴿إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى﴾ وحين أتاهم الرسول ، وقرّر لهم دلائل التوحيد ورسالته ، وجميع ما يجب الإيمان به بما لا مزيد عليه ﴿وَ﴾ من أن ﴿يَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ﴾ ويتوبوا إليه من شركهم ومعاصيهم ﴿إِلَّا﴾ انتظار ﴿أَنْ تَأْتِيَهُمْ﴾ العقوبة الدنيويّة التي هي ﴿سُنَّةُ﴾ الله ودأبه في القرون ﴿الْأَوَّلِينَ﴾ والامم الماضين الجاحدين لكلّ حقّ ، المعارضين للرسل ﴿أَوْ﴾ أن ﴿يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ﴾ الاخروي ﴿قُبُلاً﴾ وعيانا ، أو أنواعا.
__________________
(١) تفسير روح البيان ٥ : ٢٥٩.