ثمّ أشار سبحانه إلى قصص الامم الكثيرة الاخر بقوله : ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً﴾ وأقواما ﴿آخَرِينَ﴾ كقوم لوط وشعيب وغيرهم ، ولقد كان لكلّ قرن وامّة أجل مقدّر مكتوب لموتهم وهلاكهم و
﴿ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ﴾ عنه.
قيل : يعني لا يتقدّمون الوقت المؤقّت لعذابهم إن لم يؤمنوا ، ولا يتأخّرون عنه ، وذلك الوقت وقت علم الله أنّهم لا يزدادون إلّا كفرا وعنادا ، ولا يلدون إلّا فاجرا كذّابا ، ولا نفع لأحد في بقائهم ، ولا ضرر على أحد في هلاكهم (١) .
ثمّ بيّن سبحانه أنّه كما أنشأ الامم الكثيرة بعضهم بعد بعض ، أرسل إليهم الرّسل واحدا بعد واحد بقوله : ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنا﴾ إليهم ﴿رُسُلَنا﴾ حال كونهم ﴿تَتْرا﴾ ومتعاقبة على نحو تعاقب الامم ، فكان لكلّ قرن وأمّة رسول ، ولكن ﴿كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ﴾ وعارضوه ﴿فَأَتْبَعْنا﴾ القرون ﴿بَعْضَهُمْ بَعْضاً﴾ في الإهلاك ﴿وَجَعَلْناهُمْ﴾ بعد إهلاكهم وإذهاب أعيانهم وآثارهم من وجه الأرض ﴿أَحادِيثَ﴾ وحكايات لمن بعدهم يتحدّثون بها في أنديتهم ، ويحكون قضاياهم ، ويتعجبون منها ، ويعتبرون بها. وقيل : إنّه جمع أحدوثة ، وهي ما يتحدّث به تلهيّا أو تعجّبا (٢) .
ثمّ ذمّهم سبحانه ووبّخهم بقوله : ﴿فَبُعْداً﴾ أبديّا وهلاكا دائميّا ، أو المراد يكون انقطاعا أبديّا من الرّحمة ﴿لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ﴾ بآيات الله ورسله.
﴿ثُمَّ أَرْسَلْنا﴾ بعد انقراض تلك الامم وإهلاكهم ﴿مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا﴾ التّسع ﴿وَسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾ وحجّة واضحة على رسالتهما وصحّة دعواهما من البراهين العقليّة ، أو أعظم معجزاته وهي العصا ، أو المراد منه قوّة دلالة معجزاتهما على مدّعاهما ﴿إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ﴾ وأشراف قومه ﴿فَاسْتَكْبَرُوا﴾ وتعظّموا من قبول قولهما ، وتأنّفوا عن الإيمان بهما والاعتراف بمعجزاتهما ﴿وَكانُوا قَوْماً عالِينَ﴾ ومجاوزين عن الحدّ في الكبر والتّمرّد والطّغيان ﴿فَقالُوا﴾ فيما بينهم تكبّرا أو نصحا : لا ينبغي منّا الإيمان بهما ﴿أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا﴾ ونتّبعهما ، والحال أنّ بني إسرائيل الذين هم يكونون أقرباؤهما ﴿وَقَوْمُهُما﴾ جميعا ﴿لَنا عابِدُونَ﴾ وكالمماليك لنا خادمون. قيل : إنّ فرعون كان يعبد الصّنم ، وبنو إسرائيل كانوا يعبدونه (٣)﴿فَكَذَّبُوهُما﴾ مصرّين على معارضتهما حتى يئسا من إيمانهم ﴿فَكانُوا﴾ بسبب تكذيبهما محكومين بكونهم ﴿مِنَ الْمُهْلَكِينَ﴾ بالغرق في البحر.
﴿وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً
__________________
(١) تفسير الرازي ٢٣ : ١٠٠.
(٢) تفسير الرازي ٢٣ : ١٠٠ ، تفسير روح البيان ٦ : ٨٤.
(٣) تفسير روح البيان ٦ : ٨٦.