الماء (١) .
وإنّما خصّ سبحانه الأنعام بالذكر ، لأنّ غاية معائشهم ومنافعهم منوطة بها ، ولذا قدّم سقيها على سقيهم ، كما قدّم إحياء الأرض على سقيها ، لأنّه سبب لحياتها وتعيّشها.
﴿وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً * وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا
فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً * فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (٥٠) و (٥٢)﴾
ثمّ أنّه تعالى بعد بيان المنافع الدنيويّة للمطر ، بيّن منافعه الاخروية بقوله : ﴿وَلَقَدْ﴾ أنزلنا المطر و﴿صَرَّفْناهُ﴾ وأجريناه ﴿بَيْنَهُمْ﴾ في أنهارهم وأوديتهم ، أو أنزلناه في مكان دون مكان ، أو في عام دون عام.
روي عن ابن مسعود ، عن النبي صلىاللهعليهوآله أنه [ قال ] : « ما من عام بأمطر من عام ، ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي حوّل الله ذلك إلى غيرهم ، فاذا عصوا جميعا صرف الله ذلك إلى الفيافي » (٢) .
وعن ابن عباس : ما عام بأمطر من عام ، ولكن الله يصرفه في الأرض (٣) .
وقيل : إن المراد صرفنا وكوّرنا المذكور من الاظلال والرياح والسّحاب والمطر وسائر ما ذكر من الأدلة في القرآن وسائر الكتب السماوية (٤)﴿لِيَذَّكَّرُوا﴾ ويتفكّروا حتّى يعرفوا قدرة الله وحكمته وحقّ نعمته ، ويقوموا بشكره وأداء تكاليفه ﴿فَأَبى﴾ وامتنع مع ذلك ﴿أَكْثَرُ النَّاسِ﴾ ممّن سلف وخلف ﴿إِلَّا كُفُوراً﴾ لنعمه ، وعدم المبالاة بشأنها ، وعدم تأدية شكرها والقيام بحقّها ، بل جحدوها باسنادها إلى الطبائع وتأثير الكواكب.
ثمّ لمّا كان للكفّار اعتراض في بعث الرسول وشخصه ، بيّن أنّ أمره راجع إلى اختياره ومشيئته بقوله : ﴿وَلَوْ شِئْنا﴾ ورأينا الصلاح ﴿لَبَعَثْنا﴾ من قبلنا ﴿فِي كُلِّ قَرْيَةٍ﴾ ومجتمع للناس من بلد ومدينة ﴿نَذِيراً﴾ ورسولا من البشر ، ينذر أهلها ، ليخفف عليك أعباء الرسالة ، ولكن أجللناك وعظّمنا شأنك بأن خصصناك بهذا المنصب العظيم ، وبعثناك إلى الخلق أجمعين إلى يوم الدين تفضيلا لك على سائر الأنبياء والمرسلين ،
فليس لأحد أن يعترض علينا في إكثار الرسل أو تخصيصه بشخص واحد من أيّ صنف كان ، فاذا علمت اختيارنا فيه وعظم شأنك لدينا ﴿فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ﴾ في ما يطلبون منك من الإمساك عن الدعوة إلى التوحيد ودعوى الرسالة ، وموافقتهم في عبادة أصنامهم خوفا منهم ، واتل عليهم القرآن الذي هو أعظم معجزاتك ﴿وَجاهِدْهُمْ بِهِ﴾ واجتهد في محاجّتهم
__________________
(١) تفسير روح البيان ٦ : ٢٢٥.
( ٢-٤ ) تفسير الرازي ٢٤ : ٩٨.