عبادة امّته ، وفيه المبالغة في دفع شبهة طمعه في الأجر الدنيوي وإظهار غاية الشّفقة بهم ، فهذا نظير قول الوالد لولده : إنّي لا أطلب باحساني إليك وتربيتي إياك أجرا إلّا أن تحفّظ نفسك ومالك من التّلف.
وقيل : إنّ المراد لا أسألكم على الدعوة إلى الله إلّا أن يشاء أحد أن يتقرّب إلى الله بالانفاق في الجهاد وسائر الخيرات ، فيتّخذ به سبيلا إلى رحمة ربّه ونيل ثوابه (١) .
وقيل : إنّ الاستثناء منقطع (٢) ، والمعنى لا أسألكم عليه أجرا لنفسي ، ولكن أسألكم أن تطلبوا الأجر لأنفسكم باتّخاذ السبيل إلى ربّكم (٣) .
﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ
خَبِيراً (٥٨)﴾
ثمّ لمّا بيّن سبحانه تظاهر الكفّار على عداوة الله ورسوله ، أمر نبيه صلىاللهعليهوآله بالاعتماد عليه في دفع شرّهم بقوله : ﴿وَتَوَكَّلْ﴾ واعتمد يا محمد في دفع شرّهم وكفاية امور معاشك ومعادك ﴿عَلَى﴾ ربّك ﴿الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ﴾ فإنه الحقيق بأن يتوكّل عليه دون الحيّ الذي من شأنه أن يموت ، فانّه بالموت يضيّع من توكّل عليه ﴿وَسَبِّحْ﴾ ونزّه ربّك من النقائص الامكانية كالعجز والحاجة والجهل والغفلة ونظائرها ، أو صلّ لربك ، أو قل : سبحان الله ، حال كونك مقرنا له ﴿بِحَمْدِهِ﴾ والثناء عليه بنعوت الكمال وطلب مزيد إنعامه بشكره على سوابق نعمه.
ثمّ وعد سبحانه نبيّه بالانتقام من أعدائه بقوله : ﴿وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ﴾ ما ظهر منها وما بطن ﴿خَبِيراً﴾ ومطّلعا لا يحتاج إلى غيره في تعذيبهم والانتقام منهم ، لكمال قدرته عليه ، فيجزيهم جزاء وافيا ، فلا عليك أن آمنوا أو كفروا ، أو أطاعوا أو خالفوا.
﴿الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى
الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (٥٩)﴾
ثمّ وصف نفسه بالقدرة الكاملة إرعابا للقلوب وتقوية للدواعي على التوكّل عليه بقوله : ﴿الَّذِي خَلَقَ﴾ بقدرته ﴿السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما﴾ من الموجودات ﴿فِي﴾ مدّة مقدارها مقدار ﴿سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ من أيام الدنيا ، أو في ستة أوقات كلّ وقت منها محدود بالاضافة إلى ما خلق فيه ، على
__________________
(١و٢) تفسير الرازي ٢٤ : ١٠٢.
(٣) تفسير أبي السعود ٦ : ٢٢٦.