ثمّ بالغ سبحانه في إرعاب القلوب ببيان كمال قدرته وعظمته بقوله : ﴿إِنَّا نَحْنُ﴾ خاصّة لا غيرنا ﴿نَرِثُ﴾ ونملك ﴿الْأَرْضَ﴾ كلّها ﴿وَمَنْ عَلَيْها﴾ وما فيها ، فلا يبقى لأحد ملك وسلطان غيرنا بعد النّفخة الاولى في الصّور ﴿وَإِلَيْنا﴾ وإلى حكمنا ﴿يُرْجَعُونَ﴾ ويردّون ، فنحاسب أعمالهم ونجزيهم حسب استحقاقهم ، وفيه تخويف عظيم وإنذار بليغ.
ثمّ أنّه تعالى بعد بيان نبوة عيسى عليهالسلام ودعوته إلى التوحيد ، ذكر نبوّة إبراهيم عليهالسلام ودعوته إليه بقوله : ﴿وَاذْكُرْ﴾ يا محمّد ﴿فِي﴾ هذا ﴿الْكِتابِ﴾ الكريم لقومك جدّك ﴿إِبْراهِيمَ﴾ واتل عليهم نبأه ، فإنّهم مفتخرون بالانتساب إليه ، مقرّون بفضله وحسن طريقته ، وقل لهم : ﴿إِنَّهُ﴾ عليهالسلام ﴿كانَ﴾ موحّدا أو ﴿صِدِّيقاً﴾ وملازما للحقّ ومبالغا في تصديق الأنبياء ، وكتبهم ودينهم ، وكان هو أيضا ﴿نَبِيًّا﴾ عظيم الشّأن رفيع المنزلة.
واذكر ﴿إِذْ قالَ لِأَبِيهِ﴾ آزر بلين ولطف وأدب ﴿يا أَبَتِ﴾ لا بدّ في حكم العقل من كون المعبود قادرا على كلّ شيء ، سميعا لدعاء الداعين ومسألة المحتاجين ، بصيرا بأحوال عباده وأفعالهم وعباداتهم ، مغنيا عنهم ، ونافعا لهم حتى تكون عبادته جالبة للنفع ، ولا يكون لغوا ولا عبثا ، فإذا كان كذلك ﴿لِمَ تَعْبُدُ﴾ أنت ﴿ما لا يَسْمَعُ﴾ دعاءك وتضرّعك ﴿وَلا يُبْصِرُ﴾ عبادتك وخضوعك ﴿وَلا يُغْنِي عَنْكَ﴾ ولا ينفعك في حوائجك ﴿شَيْئاً﴾ يسيرا لا في الدنيا ولا في الآخرة ﴿يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي﴾ من قبل ربّي بالوحي والإلهام ﴿مِنَ الْعِلْمِ﴾ بالواقعيات وحقائق الامور ﴿ما لَمْ يَأْتِكَ﴾ إذن ﴿فَاتَّبِعْنِي﴾ ووافقني في العقائد والأعمال ، واقبل نصحي ، ولا تستنكف عن التّعلّم منّي ، فإن فعلت ذلك ﴿أَهْدِكَ﴾ وارشدك ﴿صِراطاً سَوِيًّا﴾ وطريقا مستقيما ، يوصلك إلى السعادة الأبديّة وخير الدنيا والآخرة ، وفيه من حسن الدعوة ما لا يخفى ، حيث لم يدّع لنفسه العلم الفائق ولأبيه الجهل المفرط ، وإن كانا كذلك ، بل ادّعى لنفسه زيادة العلم بالنسبة إليه ، وسأله الرّفاقة في مسلك يكون أعرف به.
﴿يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا * يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ
أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا * قالَ أَ راغِبٌ أَنْتَ عَنْ
آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ
سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ
وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا * وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا