﴿الْغَيْبَ﴾ وما لا يدركه الحواسّ ﴿إِلَّا اللهُ﴾ قيل : إنّ الاستثناء منقطع ، والمعنى لكنّه تعالى يعلمه (١).
عن أمير المؤمنين عليهالسلام أنّه أخبر يوما ببعض الامور التي لم تأت بعد ، فقيل له : أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب ؟ فضحك وقال : « ليس هو بعلم غيب ، إنّما هو تعلّم من ذي علم ، وإنّما علم الغيب علم الساعة وما عدّده الله سبحانه بقوله ﴿إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ الآية ، فيعلم سبحانه ما في الأرحام من ذكر وانثى ، وقبيح أو جميل ، وسخيّ أو بخيل وشقيّ أو سعيد ، ومن يكون للنار خطبا أو في الجنان للنبيين مرافقا ، فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه إلّا الله ، وما سوى ذلك فعلم علّمه الله نبيه فعلّمنيه ، ودعا لي أن يعيه صدري وتضطمّ عليه جوانحي » (٢) .
وأمّا غيره من الانس والجنّ لا يعلمون ﴿وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ من القبور ، وأيّ وقت ينشرون للحساب ، فانّه من علم الغيب الذي اختصّ بذاته تعالى ﴿بَلِ ادَّارَكَ﴾ وتكامل واستحكم ﴿عِلْمُهُمْ﴾ بتكامل أسبابه من الدلائل والحجج ﴿فِي﴾ شأن ﴿الْآخِرَةِ﴾ وتمكّنوا من معرفتها ، ومع ذلك لمّا لم يتفكّروا فيها جهلوا بوقوعها.
وقيل : يعني انتهى علمهم وانتفى إدراكهم بلحوقها فجهلوا بها (٣) .
وعن ابن عباس : أن وصفهم باستحكام العلم بالآخرة على سبيل التهكّم والاستهزاء (٤) .
﴿بَلِ﴾ المشركون ﴿هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها﴾ ثمّ أضرب سبحانه عن كونهم شاكّين إلى بيان كونهم في أقطع حال من الشكّ بقوله : ﴿بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ﴾ وفاقدو البصيرة بحيث لا يكادون يدركون دلائلها.
﴿وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَ إِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَ إِنَّا لَمُخْرَجُونَ * لَقَدْ وُعِدْنا هذا
نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ * قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ
فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ * وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ
مِمَّا يَمْكُرُونَ (٦٧) و (٧٠)﴾
ثمّ حكى سبحانه مقالتهم في المعاد الدالة على عميهم منه بقوله : ﴿وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ من مشركي مكّة : ﴿أَ إِذا كُنَّا تُراباً وَ﴾ كان ﴿آباؤُنا﴾ أيضا ترابا ﴿أَ إِنَّا لَمُخْرَجُونَ﴾ من القبور أحياء ؟ ! وإنّما كرّروا الاستفهام الانكاري مبالغة في الإنكار.
__________________
(١) تفسير روح البيان ٦ : ٣٦٤.
(٢) نهج البلاغة : ١٨٦ الخطبة ١٢٨ ، تفسير الصافي ٤ : ٧٢ ، وفي النسخة وتفسير الصافي : وتضم عليه جوارحي.
(٣) تفسير روح البيان ٦ : ٣٦٥.
(٤) تفسير الرازي ٢٤ : ٢١٢ ، وتفسير البيضاوي ٢ : ١٨١ ، ولم ينسب إلى ابن عباس.