بشرا ، أو خصوص الرسول الظاهر ، وتخصيص عموم النفي بالأدلة الدالة على حجيّة الأحكام العقلية بما إذا لم يحكم العقل بالوجوب أو الحرمة. وعلى هذه الوجوه الثلاثة يكون مدلول الآية نفي الظلم عن ذاته المقدسة ، وقبح العقاب بلا بيان ، فيكون دليلا على البراءة عند الشكّ في التكليف وعدم وجدان الحجّة عليه.
وما قيل : من أنّ المراد بالعذاب في الآية العذاب الدنيوي ، والمقصود من قاعدة البراءة نفي العذاب مطلقا دنيويا كان أم اخرويا ، ونفي العذاب الدنيوي لا يدلّ على نفي العذاب الاخروي منه إلّا بالفحوى ، وهو ممنوع. فيه : أن قوله تعالى : ﴿ما كُنَّا﴾ دالّ على تنزيه ذاته المقدسة من ارتكاب هذا الفعل لقبحه وعدم لياقته بمقام حكمته والوهيته ، ولا يتفاوت في ذلك بين كون العذاب دنيويا أو اخرويا.
ثمّ لا يخفى أنّ نفي العذاب إلى الغاية لا يدلّ على وقوعه بعدها وإن لم يتحقّق عصيان كما توهّم ، بل الظاهر أنّه بيان كون البعث من شرائط صحة العذاب إذا وجد مقتضية وارتفعت موانعه من التوبة والشفاعة وأمثالهما.
﴿وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ
فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً * وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ
عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٦) و (١٧)﴾
ثمّ بيّن الله أنّ العذاب الدنيوي لا يكون إلّا بعد كمال الاستحقاق بالطغيان بقوله : ﴿وَإِذا أَرَدْنا﴾ وعزمنا على ﴿أَنْ نُهْلِكَ﴾ ونعدم ﴿قَرْيَةً﴾ من القرى ونعذّب أهلها بعذاب الاستئصال ، لخبث ذاتهم وسوء أخلاقهم ﴿أَمَرْنا﴾ بتوسط الرسول ﴿مُتْرَفِيها﴾ وجبابرتها والمتنعّمين من أهلها ورؤوسها المتّبعين فيهم بالطاعة والتسليم لأحكامنا.
وقيل : إنّ المراد أكثرنا مترفيها وفسّاقها وطغاتها (١) ، أو المراد : إذا أردنا أن نهلك قرية بسبب عصيان أهلها ، لا نعاجلهم بالعقوبة ، بل أمرناهم بالرجوع عن العصيان والتوبة عن السيئات (٢) ، أو المراد من الأمر تسبيب أسباب الفسق من توفير النعم وتهيئة المرغّبات إلى العصيان وما يفضيهم إليه (٣) .
﴿فَفَسَقُوا﴾ وتمرّدوا وخرجوا عن طاعتنا ﴿فِيها﴾ وتبعهم سائر أهلها ﴿فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ﴾ وثبتت
__________________
(١) تفسير الرازي ٢٠ : ١٧٥.
(٢) تفسير الرازي ٢٠ : ١٧٦.
(٣) تفسير الرازي ٢٠ : ١٧٥ ، ١٧٦.