﴿وَأَطِيعُونِ﴾ في أمري.
فلمّا سمع قومه دعوته ﴿قالُوا﴾ له إنكارا عليه : ﴿أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ﴾ نتّبعك في قولك ، والحال أنّه ﴿اتَّبَعَكَ﴾ الفقراء ﴿الْأَرْذَلُونَ﴾ والسّفلة الأدنون جاها ومالا ونسبا فإنّ إيمانهم لا يكون عن نظر وبصيرة لعدم رزانة عقلهم ومتانة رأيهم ، بل نظرهم إلى جلب المال وتحصيل الجاه ، فهم في الباطن كافرون بك ، لا ينبغي لنا أن نجعل أنفسنا في رديفهم.
قيل : كانوا من أهل الصناعات الخسيسة (١) . وقيل : إنّهم كانوا حجّاما (٢) . وعن ابن عباس : كانوا حائكين (٣) .
﴿قالَ :﴾ نوح عليهالسلام في جوابهم : ما إحاطتي ﴿وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ من إيمانهم الحقيقي بربي ، وإقرارهم القلبي برسالتي ، ومالي إطّلاع على خلوصهم في الايمان أو نفاقهم ، وليس عليّ التفتيش عن باطنهم وشقّ قلوبهم ، بل عليّ الاكتفاء والاعتبار بظاهر إقرارهم ﴿إِنْ حِسابُهُمْ﴾ ومؤاخذتهم على بواطنهم وسرائرهم ﴿إِلَّا عَلى﴾ عهدة ﴿رَبِّي﴾ المطّلع على البواطن والسرائر ، العالم بالخفيات ، وأنتم ﴿لَوْ تَشْعُرُونَ﴾ وتدركون المطالب الواضحة لشعرتم صحّة قولي ، وأدركتم صدق خبري ، ولكنكم تجهلون وتقولون ما لا تعلمون.
﴿وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ * إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ * قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ
لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ * قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ
فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ
الْمَشْحُونِ * ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ * إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ
مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١١٤) و (١٢٢)﴾
ثمّ لمّا كان في قدح أتباعه إيهام توقّع طردهم عن مجالسه وإبعادهم عن حوله ، قطع طمعهم هذا بقوله : ﴿وَما أَنَا بِطارِدِ﴾ هؤلاء ﴿الْمُؤْمِنِينَ﴾ ومبعدهم عن حولي ومجلسي ، ولا يمكنني موافقتكم في ما تتوقّعون منّي من الاعراض عمّن أقبل على ربي ، لأنّه خلاف وظيفتي ﴿إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ﴾ وما أنا إلّا رسول مبعوث لتخويف الناس من العذاب على الكفر بالله وعصيانه ﴿مُبِينٌ﴾ ومتظاهر بالانذار ، أو موضح لما ارسلت به سواء كانوا أعزاء أو أذلاء ، أغنياء أو فقراء ، بل وظيفتي تقريب من قبل قولي ودعوى رسالتي ، وآمن بربي ، فلمّا عجزوا عن معارضته بالحجة أخذوا في تهديده و﴿قالُوا لَئِنْ لَمْ
__________________
(١و٢) تفسير الرازي ٢٤ : ١٥٥.
(٣) تفسير القرطبي ٩ : ٢٤.