نقمة ، وحياتهم هلاكا ، وعمارتهم خرابا ، وصدّقنا الرّسل ما وعدتهم من النّصر والتمكين في الأرض ، فاصبر أنت أيضا على تكذيب قومك كما صبر اولوا العزم من الرّسل ، فإنّي اعامل مع مكذّبيك كما عاملت مع مكذّبيهم ، وإنّما المصلحة والحكمة اقتضت إمهالهم كما اقتضت إمهال الامم السابقة.
﴿فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ
وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥)﴾
ثمّ أنّه تعالى بعد بيان تكذيب الامم رسلهم وأخذهم بعد الإمهال ، بيّن كيفيّة أخذه بقوله : ﴿فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ﴾ وكم من بلدة ﴿أَهْلَكْناها﴾ بالعذاب من الغرق والصيحة والصاعقة ونظائرها ﴿وَهِيَ ظالِمَةٌ﴾ بالكفر والمعاصي وتكذيب الرسل بمقتضى العدل لا بالتشفّي والجور ﴿فَهِيَ﴾ خربة أفضع الخراب حيث إنّ جدرانها ﴿خاوِيَةٌ﴾ وساقطة ﴿عَلى عُرُوشِها﴾ وسقوفها بعد سقوطها ﴿وَ﴾ كم من ﴿بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ﴾ لا أهل لها يستسقى منها ﴿وَ﴾ كم من ﴿قَصْرٍ مَشِيدٍ﴾ ومنزل مرتفع البنيان ، أو محكمه ، أو مبنيّ بالجصّ ، أخليناه من ساكنيه.
روي أنّ هذه بئر نزل عليها صالح النبيّ مع أربعة آلاف ممّن آمن به وهي بحضرموت ، وإنّما سميّت بذلك لأنّ صالحا حين حضرها مات ، وكانت بلدة عند البئر اسمها حاضوراء ، بناها قوم صالح ، وأمّروا عليهم جليس بن جلاس ، وأقاموا بها زمانا ، ثمّ كفروا وعبدوا صنما ، فأرسل الله عليهم حنظلة بن صفوان نبيّا ، وكان حمّالا فيهم ، فقتلوه في السوق ، فأهلكهم الله ، وعطّل بئرهم ، وخرب قصورهم (١) .
وقيل : إنّ البئر الرسّ ، وكانت بعدن لأمّة من بقايا ثمّود ، وكان لهم ملك عادل حسن السيرة ، يقال له العلس ، وكانت البئر تسقي المدينة كلّها وباديتها وجميع ما فيها من الدوابّ والأنعام ، لأنّها كانت لها بكرات كثيرة منصوبة عليها ، ورجال كثيرون موكلون بها ، وحياض كثيرة تملأ للناس ، واخر للدّوابّ ، واخر للغنم والبقر والهوام ، يسقون عليها بالليل والنهار يتناوبون (٢) ، ولم يكن ماء غيره.
فطال عمر الملك ، فلمّا مات طلي بدهن لتبقى صورته ولا يتغيّر ، وكذلك يفعلون إذا مات منهم ميّت يكرم عليهم ، فشقّ عليهم موته وفساد أمرهم ، وضجّوا جميعا بالبكاء ، فاغتنمها الشيطان منهم ، فدخل في جثّة الملك بعد موته بأيّام كثيرة فكلّمهم وقال : إنّي لم أمت ، بل غبت عنكم حتى أرى صنيعكم بعدي ، ففرحوا فرحا شديدا ، وأمر خاصّته أن يضربوا له حجابا بينه وبينهم ، ويكلّمهم من
__________________
(١) تفسير روح البيان ٦ : ٤٣.
(٢) في تفسير روح البيان : يتدالون.