ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر ولادة عيسى عليهالسلام وحكاية اعترافه بالعبوديّة لله ، بيّن بطلان قول النصارى بأنّه ابن الله بقوله : ﴿ذلِكَ﴾ المتولّد من مريم بنفخ جبرئيل المعترف بالعبوديّة لله ورسالته هو ﴿عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ لا الذي قالت النصارى بألوهيّته ، أو إنّه ابن الله ، قلنا لكم ﴿قَوْلَ الْحَقِ﴾ والصدق. وقيل : إنّ المعنى أنّ عيسى كان قول الحقّ (١) وكلمة الله وروحه ﴿الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ﴾ وفي شأنه يشكّون ويختلفون.
﴿ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *
وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ
بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ * أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ
يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ
قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٥) و (٣٩)﴾
ثمّ بيّن امتناع كونه ولدا لله بقوله : ﴿ما كانَ﴾ وما صحّ ﴿لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ﴾ لنفسه ﴿مِنْ وَلَدٍ﴾ لأنّ الولد لا بدّ أن يكون مسانخا لوالده ، ولا تعدّد لواجب الوجود ﴿سُبْحانَهُ﴾ وتنزّه من أن يكون له جنس وجسم وحاجة إلى الولد ، لأنّه ﴿إِذا قَضى﴾ وأراد ﴿أَمْراً﴾ من الامور وشيئا من الأشياء ﴿فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ﴾ ويشاءه بالمشيئة التكوينيّة ﴿فَيَكُونُ﴾ ذلك الأمر ويوجد ذلك الشيء بصرف إرادته ومشيئته بلا ريث ، كالمأمور المطيع للآمر المطاع.
ثمّ عاد سبحانه إلى بيان بقيّة ما قال عيسى عليهالسلام في المهد ، أو بعد بعثته ، بقوله : ﴿وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ﴾ فإذا كان كذلك ﴿فَاعْبُدُوهُ﴾ وحده ولا تشركوا به شيئا من خلقه في الالوهيّة والعبادة ، واعلموا أنّ ﴿هذا﴾ التوحيد الذي دعوتكم إليه وأمرتكم به ﴿صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ موصل لكم إلى كلّ خير وسعادة ، لا يضلّ ولا يشقى سالكه ﴿فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ﴾ والجماعات الكثيرة من النّاس المتحزّبين ﴿مِنْ بَيْنِهِمْ﴾ فقال حزب : إنّه الله ، وحزب : إنّه ابن الله ، وحزب : إنّه شريك الله وثالث ثلاثة ، وحزب : إنّه عبد الله ونبيّه ﴿فَوَيْلٌ﴾ ثابت وهلاك دائم ﴿لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ من المختلفين ﴿مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ ومعاينة أهوال القيامة ﴿أَسْمِعْ بِهِمْ﴾ وما أسمعهم للهدى ! ﴿وَأَبْصِرْ﴾ وما أبصرهم بالحقّ ! ﴿يَوْمَ﴾ هم ﴿يَأْتُونَنا﴾ فيه للحساب وجزاء الأعمال ، فيصير الحقّ عندهم أبين من الشّمس.
وقيل : إنّ المعنى أسمع يا محمّد بهم وأبصرهم وعرّفهم حالهم في اليوم الذي يأتوننا (٢) فيه و﴿لكِنِ
__________________
(١) تفسير الرازي ٢١ : ٢١٧.
(٢) تفسير الرازي ٢١ : ٢٢١.