قيل : إن الاستغاثة (١) بهذا البيان حسنة ولو مع العلم بامتناع الرجوع ؛ لأنه من باب التمنّي (٢).
ثمّ ردعهم الله من هذا القول بقوله : ﴿كَلَّا﴾ لا رجوع لك إلى الدنيا أبدا ، ثمّ أقنطهم بعد كلمة ﴿ارْجِعُونِ﴾ بقوله : ﴿إِنَّها كَلِمَةٌ﴾ ولفظة صرفة لا يعمل بها ، وإنّما ﴿هُوَ﴾ عند الموت ﴿قائِلُها﴾ تحسّرا وتندّما ﴿وَمِنْ وَرائِهِمْ﴾ وخلفهم أو أمامهم ﴿بَرْزَخٌ﴾ وحاجز بينهم وبين الرجوع وهو الموت ، أو عالم يعذّبون فيه ﴿إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ.﴾
﴿فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١)﴾
ثمّ بيّن سبحانه كيفية ذلك اليوم بقوله : ﴿فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ﴾ النفخة الثانية التي يحيا بها الأموات ﴿فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ﴾ تفيدهم ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ وتنجيهم من أهواله ، وزال التراحم والتعاطف من قلوبهم ﴿وَلا يَتَساءَلُونَ﴾ فيما بينهم عنها ، ولا يقول أحد لأحد : أنت ابن من ، وأبو من ، ومن أيّ قبيلة وعشيرة ؟ بل يفرّ المرء من فرط الدهشة والوحشة من أخيه وصاحبته وبنيه.
روي أنّ عائشة قالت : يا رسول الله ، أما نتعارف يوم القيامة ؟ إنّي أسمع الله يقول : ﴿فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ﴾ فقال صلىاللهعليهوآله : « ثلاثة مواطن تذهل فيها كلّ نفس : حين يرمى إلى كلّ إنسان كتابه ، وعند الموازين ، وعلى جسر جهنّم » (٣) .
في ( روح البيان ) عن الأصمعي ، أنه قال : كنت أطوف بالكعبة في ليلة مقمرة ، فسمعت صوتا حزينا فتبعته ، فاذا أنا بشابّ حسن ظريف متعلّق بأستار الكعبة ، وهو يقول : « نامت العيون ، وغارت النجوم ، وأنت الملك الحيّ القيوم ، قد غلّقت الملوك أبوابها ، وأقامت عليها حرّاسها (٤) وحجّابها ، وبابك مفتوح للسائلين ، فها أنا سائلك ببابك ، مذنبا فقيرا مسكينا أسيرا ، جئتك (٥) انتظر رحمتك يا أرحم الراحمين » . ثمّ أنشأ يقول :
يا من يجيب دعا المضطرّ في الظّلم |
|
يا كاشف الضّرّ والبلوى مع السّقم |
قد نام وفدك (٦) حول البيت قاطبة (٧) |
|
و أنت وحدك (٨) يا قيّوم لم تنم |
أدعوك ربّي ومولاي ومعتمدي (٩) |
|
فارحم بكائي بحقّ البيت والحرم |
أنت الغفور فجد لي منك مغفرة |
|
أو اعف عنّي يا ذا الجود والنّعم |
__________________
(١) في تفسير الرازي : الاستعانة.
(٢) تفسير الرازي ٢٣ : ١٢٠.
(٣) تفسير الرازي ٢٣ : ١٢٢ ، تفسير روح البيان ٦ : ١٠٧.
(٤) في المصدر : حرسها.
(٥) في المصدر : جئت.
(٦) في المصدر : وفدي.
(٧) في المصدر : وانتبهوا.
(٨) في المصدر : يا حيّ.
(٩) في المصدر : ومستندي.