ماتوا على الكفر والطّغيان بالعذاب الهائل الدنيوي المتّصل بالعذاب الشّديد الدّائم الاخروي ﴿وَما هَدى﴾ وما أرشد إلى مطلوب وخير أبدا. وفيه تأكيد لغاية إضلاله وردّ لقوله : ﴿وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ﴾(١).
روى أنّ موسى لمّا ضرب بعصاه البحر حصل اثنى عشر طريقا يابسا ، يتهيّأ طروقه ، وبقي الماء قائما بين الطريق والطريق كالطّود العظيم ، فأخذ كلّ سبط من بني إسرائيل في طريق من هذه الطرق (٢) .
وقيل : بل حصل طريق واحد (٣) .
وقيل : إن فرعون لمّا خاف من دخول البحر ، أمر مقدّمته بالدخول فيه ، فلمّا دخلوا وساروا فيه وما غرقوا ، غلب على ظنّه السلامة فدخل ، فلمّا دخل الكلّ أغرقهم الله (٤) .
أقول : لا تنافي بين هذا وبين ما روي من تقدّم جبرئيل عليه وهو على رمكة (٥) ؛ لأنّه وإن كان ظنّ السلامة ولكن يمكن أنّه لو لم يجمح فرسه لكان يحتاط ، ولمّا جمح فرسه وكان له ظن السلامة لم يبالغ في إمساك فرسه ، فلا يرد على الرواية أنّ فرعون مع عقله ودهائه كيف ألقى نفسه في التّهلكة.
﴿يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ
وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى * كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ
فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (٨٠) و (٨١)﴾
ثمّ رغّب الله سبحانه بني إسرائيل في طاعته بتذكريهم النّعم التي أنعم عليهم ، مقدّما لنعمة دفع الضّرر عنهم على إيصال النفع إليهم ، مخاطبا لهم بلسان موسى بعد إغراق فرعون وابتلائهم بالتّيه بقوله : ﴿يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ﴾ فرعون وقومه وخلّصناكم من ظلمهم.
ثمّ ثنّاها بالنّعمة الدّينيّة التي هي أهمّ من النّعم الدّنيويّة بقوله : ﴿وَواعَدْناكُمْ﴾ ودعوناكم بوساطة نبيّكم موسى عليهالسلام أن تأتوا ﴿جانِبَ الطُّورِ﴾ يعني جانبه ﴿الْأَيْمَنَ﴾ من السالك من مصر إلى الشام على ما قيل (٦) .
وإنّما أضاف الدّعوة إلى جميعهم مع كون المدعوّ خصوص موسى ، أو هو مع السبعين المختارة ، لكونهم منهم ، ونفعها من المناجاة وأخذ التوراة عائدا إلى جميعهم.
ثمّ ثلّثهما بذكر النعمة العظيمة الدنيوية بقوله : ﴿وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى﴾ وقد مرّ تفسيرهما
__________________
(١) غافر : ٤٠ / ٢٩.
(٢ - ٤) تفسير الرازي ٢٢ : ٩٤.
(٥) الرّمكة : الفرس البرذونة تتّخذ للنسل.
(٦) تفسير الرازي ٢٢ : ٩٦.