ثمّ ردّهم سبحانه بقوله : ﴿فَقَدْ جاؤُ﴾ وأتوا بما قالوا ﴿ظُلْماً﴾ عظيما حيث جعلوا الكلام المعجز إفكا واختلاقا مفتعلا من اليهود ﴿وَزُوراً﴾ وكذبا واضحا حيث نسبوا إلى النبيّ صلىاللهعليهوآله ما هو برئ منه ، لأنّه صلىاللهعليهوآله تحدّى بالقرآن مع كون معارضيه مهرة الكلام وخراريت (١) فنّ الفصاحة ، قادرين على الاستعانة بأهل الكتاب والمطّلعين على التواريخ السالفة ، حريصين على إبطال أمره وإطفاء نوره ، ومع ذلك عجزوا عن إتيان أقصر سورة مثله ، ولو كان من كلام البشر لأتوا به ﴿وَقالُوا﴾ أيضا هذا القرآن الذي جاء به ﴿أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ وخرافات المتقدّمين والأحاديث الملفّقات المنقولة من السابقين هو ﴿اكْتَتَبَها﴾ وأمر غيره بثبتها في أوراق ﴿فَهِيَ تُمْلى﴾ وتقرأ ﴿عَلَيْهِ﴾ بعد كتابتها ﴿بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾ وأول النهار وآخره ليحفظها من أفواه الذين يقرءونها ، لكونه اميا لا يعرف الخطّ حتى يقدر على قراءتها بنفسه.
﴿قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً *
وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ
فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً * أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ
الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٦) و (٨)﴾
ثمّ أمر سبحانه النبي صلىاللهعليهوآله بجوابهم بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمّد ، إنّ ما أتاكم به من القرآن إنّما ﴿أَنْزَلَهُ﴾ علىّ الإله ﴿الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ﴾ الكامن ﴿فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ وخفيّات الموجودات ، لأنّ القادر على تركيب الألفاظ تركيبا يعجز عنه جميع الفصحاء مع اشتمالها على الأخبار بالمغيبات والعلوم الكثيرة والأحكام الموافقة لصلاح العباد ونظام العالم ، لا يكون إلّا من العالم بجميع الامور حتى الأسرار والخفيات في عالم الكون ، فهو يعلم سرّكم وجهركم ، وظاهركم وباطنكم ، وباطن أمر الرسول ، وبراءته ممّا تتهمونه به ، ويجازيكم على ما علم منكم ، ولكن لا يعاجلكم بالعقوبة ﴿إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً﴾ مع استحقاق العقوبة.
ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية قدح المشركين في القرآن ، حكى قدحهم في الرسول بقوله : ﴿وَقالُوا﴾ اعتراضا على رسالة محمّد صلىاللهعليهوآله وتصغيرا لشأنه ، وإظهارا للتعجّب من ادّعائه واستهزاء به بتسميته بالرسول ﴿ما﴾ هذا الحال المعجب الذي يكون ﴿لِهذَا الرَّسُولِ﴾ على قوله ، وهو أنه ﴿يَأْكُلُ الطَّعامَ﴾ كما نأكل ﴿وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ﴾ لحوائجه وطلب معاشه كما نمشي ، إذن هو بشر مثلنا لا
__________________
(١) الخراريت ، جمع خرّيت : أي الحاذق الماهر ، والدليل الحاذق بالدلالة ، وفي النسخة : خراريط.