مصارفها ﴿وَهُمْ بِالْآخِرَةِ﴾ ودار جزاء الأعمال ﴿هُمْ يُوقِنُونَ﴾ حقّ الإيقان ، ولذا يجتهدون في الطاعات البدنية التي أهمّها الصلاة ، والعبادات المالية التي أهمّها الزكاة رجاء الثواب وخوفا من العقاب ، وإنّما أتى بضمير الجمع للاشارة إلى اختصاصهم بهذا اليقين ووصفهم بهذا الوصف لإخراج من يظهر الإيمان ويعمل تلك الأعمال مع الشكّ احتياطا.
وقيل : إنّ الجملة (١) اعتراضية ، والمعنى أن المؤمنين العاملين هم الموقنون بالمعاد (٢) .
﴿إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ * أُوْلئِكَ الَّذِينَ
لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ * وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ
لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٤) و (٦)﴾
ثمّ أنّه تعالى لمّا خصّ البشرى بالمؤمنين الموقنين بالآخرة ، ذمّ الكفّار وذكر ما خصّ بهم من العذاب الشديد بقوله ﴿إِنَ﴾ الكفّار ﴿الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ﴾ الحسنة ببيان كثرة ثوابها وترغيبهم إليها ، أو أعمالهم القبيحة بأن جعلناها مشتهاة لطباعهم محبوبة لأنفسهم ، أو بأن سلبنا عنهم التوفيق للأعمال الخيرية الموجبة لسلطنة الشيطان عليهم ، وترغيبه لهم ، وتزيينه الأعمال السيئة في نظرهم ﴿فَهُمْ يَعْمَهُونَ﴾ عنها ولا يدركون ما يتبعها من الثواب على الوجه الأول ، أو من العقاب على الوجه الثاني ، أو المراد يتردّدون في الاشتغال بالقبائح والانهماك فيها من غير ملاحظة لما يترتّب عليها من الضّرر والعقوبة.
﴿أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ﴾ وشديده في الدنيا ، أو في الآخرة ﴿وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ﴾ والأغبنون لتضييعهم العمر والعقل اللذين هما بمنزلة رأس المال ، وتفويتهم المثوبات العظيمة ، وتحصيلهم العقوبات الشديدة ، فلا يعدلهم خاسر.
ثمّ أنّه تعالى بعد تعظيم القرآن وبيان فوائده وكثرة علومه ، صرّح بكونه نازلا منه بقوله : ﴿وَإِنَّكَ﴾ يا محمد ﴿لَتُلَقَّى﴾ ولتعطى ﴿الْقُرْآنَ﴾ وتأخذه بتوسّط جبرئيل ﴿مِنْ لَدُنْ﴾ إله ﴿حَكِيمٍ﴾ أيّ حكيم و﴿عَلِيمٍ﴾ أيّ عليم ! فبحكمته بيّن فيه المعارف والأحكام ، وبعلمه ذكر فيه القصص والعبر الكثيرة.
قيل : إنّ هذا تمهيد لما يريد أن يسوق بعده من القصص ، فكأنه تعالى قال : خذ من آثار حكمته وعلمه قصّة موسى عليهالسلام المشتملة على العلوم النظرية من توحيده وقدرته وسائر صفاته الكمالية(٣) .
__________________
(١) في النسخة : الجملتين.
(٢) تفسير الرازي ٢٤ : ٧٨ ، تفسير البيضاوي ٢ : ١٧٠ ، تفسير روح البيان ٦ : ٣١٩.
(٣) تفسير الرازي ٢٤ : ١٨٠.