ثمّ حكى سبحانه مبالغتهم في الاختفاء بذكر علّته بقوله : ﴿إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا﴾ ويطّلعوا ﴿عَلَيْكُمْ﴾ ويظفروا بكم ﴿يَرْجُمُوكُمْ﴾ ويقتلوكم بالرّمي بالأحجار إن ثبتّم على دينكم ﴿أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ﴾ من عبادة الأصنام ، ويدخلوكم فيها إن لم توطّنوا أنفسكم على القتل ﴿وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً﴾ لا في الدنيا ولا في الآخرة. فإنّ الإجابة الظّاهريّة قد تؤدّى إلى الإجابة الحقيقيّة الواقعيّة.
ثمّ قيل : إنّهم بعثوا تمليخا - وكان له كمال عقل وفطانة - إلى المدينة ، فلمّا وصل إليها رأى بابها متغيّرا ، فلمّا دخلها رأى أسواقها وسككها وأوضاع أهلها على غير النحو الذي رآها سابقا ، فغلبت الحيرة عليه ، فجاء إلى دكّة الخبّاز فأعطاه درهما ليشتري به الخبز ، وكان عليه اسم دقيانوس أو صورته ، فتخيّل أنّه وجد كنزا فأراه أهل السوق ، فانتشر الخبر فيه حتى اتّصل الخبر بحاكم المدينة ، فطلب تمليخا وهدّده وقال : جئني ببقيّة الكنز ، فقال تمليخا : إنّا ما وجدنا كنزا ، إنّما أخذت هذا الدّرهم من دار أبي بالأمس ، وجئت اليوم لأشتري به من السوق طعاما. فسألوه عن اسم أبيه وحليته فأخبرهم ، فلم يعرفه أحد فكذّبوه ، فأخذته الدهشة. فقال : أذهبوا بي إلى دقيانوس الملك. فإنّه عارف بي وبأبي فاستهزءوا به (١) وقالوا : إنّ دقيانوس مات قريبا من ثلاثمائة سنة ، فقال تمليخا : أنا وجماعة من أصحابي فررنا منه بالأمس إلى جبل قريب من هذا البلد ، واليوم بعثني أصحابي لأشتري لهم الطعام ، لا أعلم غير هذا الذي أقول.
فذهب الحاكم به إلى الملك ، فاستخبره الحال ، فأخبره تمليخا بمثل ما أخبر به غيره ، فتوجّه الملك وأشراف البلد مع تمليخا إلى الغار ، فتقدّمهم تمليخا ، وأخبر أصحابه بالقضيّة ، فلمّا وصل الملك إلى الكهف رأى لوحا منصوبا على بابه ، مكتوب فيه أسامي أصحاب الكهف وقصّتهم ، فقرءوه وأطّلعوا على أحوالهم (٢) .
﴿وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ
يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ
غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (٢١)﴾
ثمّ بيّن سبحانه علّة إطّلاع النّاس عليهم بقوله : ﴿وَكَذلِكَ﴾ الإنامة ، والبعث الدالّين على كمال قدرتنا وحكمتنا ﴿أَعْثَرْنا﴾ النّاس واطّلعناهم ﴿عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا﴾ بتلك الإنامة والبعث ﴿أَنَّ وَعْدَ اللهِ﴾ بالإحياء بعد الموت للحساب ﴿حَقٌ﴾ وصدق ، لا خلف فيه لوقوع نظيره في الفتية ﴿وَأَنَّ السَّاعَةَ﴾
__________________
(١) في النسخة : فاستهزؤه.
(٢) تفسير روح البيان ٥ : ٢٣٠.