المجاوزين في الطّغيان بعذاب الاستئصال عقوبة لهم وعبرة لمن يأتي بعدهم ويسمع خبرهم.
ثمّ بيّن الله سبحانه عظيم نعمته على هذه الامّة بقوله : ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ﴾ أيّها النّاس بواسطة محمّد ﴿كِتاباً﴾ عظيم الشأن يكون ﴿فِيهِ ذِكْرُكُمْ﴾ وعظتكم ، لتحذّروا من موجبات هلاككم ، أو فيه ذكر دينكم وبيان ما يلزمكم وما لا يلزم عليكم ، كي تفوزوا بالعمل به بالجنّة ، أو فيه شرفكم وصيتكم ﴿أَ فَلا تَعْقِلُونَ.﴾ قيل : إنّ التقدير : ألا تفكّرون فلا تعقلون أنّ الأمر كذلك (١) ؟ فإنّ تعقّله لا يكون إلّا بالتّدبّر فيه ، أو المعنى : ألا يكون لكم عقل يبعثكم إلى التدبّر في القرآن والإتّعاظ والعمل بما فيه ؟
﴿وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا
بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ * لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ
وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ * قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ * فَما زالَتْ تِلْكَ
دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١١) و (١٥)﴾
ثمّ بيّن سبحانه كيفيّة هلاك المسرفين إرعابا للقلوب بقوله : ﴿وَكَمْ قَصَمْنا﴾ وكثيرا كسرنا كسرا فظيعا بحيث تفتّتت الأجزاء ﴿مِنْ قَرْيَةٍ﴾ وأهالي مدينة ﴿كانَتْ ظالِمَةً﴾ على أنفسهم بالإعراض عن الآيات وتكذيب الرسل ﴿وَأَنْشَأْنا﴾ وأوجدنا ﴿بَعْدَها﴾ ووراء إهلاكها ﴿قَوْماً آخَرِينَ﴾ لم يكونوا منهم نسبا ودينا ﴿فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا﴾ واستشعروا بعذابنا المستأصل وهم في القرية ﴿إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ﴾ ويهربون ويسرعون في العدو للخروج منها خوفا من المهالك.
قيل : هي قرية حضور باليمن ، بعث الله إليهم نبيّا فقتلوه ، فسلّط الله عليهم بخت نصّر فاستأصلهم (٢) .
روي أنّه لمّا أخذتهم السيوف نادى مناد من السماء : يالثارات الأنبياء (٣) .
فقيل لهم توبيخا وتهكّما : ﴿لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ﴾ وأبطرتم ﴿فِيهِ﴾ من النّعم ورفاه العيش ﴿وَمَساكِنِكُمْ﴾ المرضيّة ﴿لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ﴾ غدا عمّا جرى عليكم ونزل بأموالكم ومساكنكم ، فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة ، أو يسألكم النّاس في أنديتكم لتعاونوهم في نوازل الخطوب ، ويستشيرونكم في المهمّات ، ويستعينون بآرائكم أو يسألكم الوافدون عليكم والطّامعون فيكم.
فلمّا يأسوا من الخلاص بالهرب ، وأيقنوا بهلاكهم بالعذاب ﴿قالُوا﴾ تأسّفا وتحسّرا وندما : ﴿يا وَيْلَنا﴾ ويا هلاكنا احضر ، فهذا أوانك ﴿إِنَّا كُنَّا﴾ بأعمالنا ﴿ظالِمِينَ﴾ على أنفسنا ومستحقّين لهذا
__________________
(١) تفسير أبي السعود ٦ : ٥٨ ، تفسير روح البيان ٥ : ٤٥٧.
(٢ و٣) تفسير الرازي ٢٢ : ١٤٦.