أقول : لا مجال للشكّ في ما دلّت عليه الآيات والروايات من وجود كتاب مكتوب فيه الأعمال يؤتى كّل نفس من المؤمن والفاسق يوم القيامة بيمينها أو شمالها ، ويقول : ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها ، ولا منافاة بينها وبين وجود الكتاب النفساني الذي ذكر ، فيجب الالتزام بظاهر الآية وتفسيرها بما كتبه الملكان.
عن الصادق عليهالسلام ، في هذه الآية ، قال : « يذكّر العبد جميع ما عمل وكتب (١) عليه حتى كأنّه فعله تلك الساعة ، فلذلك قالوا : ﴿يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ﴾ الآية » (٢) .
﴿مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ
أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥)﴾
ثمّ أنّه تعالى بعد بيان عدم انفكاك الانسان عن عمله ، بيّن اختصاص نتائجه بعامله بقوله : ﴿مَنِ اهْتَدى﴾ إلى الحقّ والصواب بهداية القرآن وعمل بما فيه ﴿فَإِنَّما يَهْتَدِي﴾ ويكون نفع هدايته وعمله ﴿لِنَفْسِهِ﴾ وعائدا إلى شخصه لا يتعدّى إلى غيره ﴿وَمَنْ ضَلَ﴾ عن الحقّ وانحرف عن طريق الصواب ، ولم يؤمن بالقرآن ، ولم يعمل بأحكامه ﴿فَإِنَّما يَضِلُ﴾ وضرر ضلاله ﴿عَلَيْها﴾ وتبعاته راجعة إليها لا تتجاوز إلى غيرها ، ثمّ قرر ذلك بقوله : ﴿وَلا تَزِرُ﴾ ولا تحمل نفس ﴿وازِرَةٌ﴾ وحاملة للوزر والثقل أو للإثم ﴿وِزْرَ﴾ نفس ﴿أُخْرى﴾ وإثمها كي تتخلّص النفس الاخرى من الإثم ، أو يخفّف عنها ، وحاصل المراد عدم مؤاخذة أحد بذنب غيره.
ثمّ أنّه تعالى بعد نفي الظلم عن نفسه بأحد بذنب غيره ، أثبت لنفسه اللّطف بعباده بقوله : ﴿وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ﴾ أحدا من الناس ، وما صحّ لنا بمقتضى اللطف عقوبة أحد منهم ﴿حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ من البشر يبلّغهم أحكامنا ويبيّن لهم تكاليفنا.
واعلم أنّ هذا التفسير مبنيّ على القول بصحة العقوبة على مخالفة الأحكام العقلية ، إلّا أنّ مقتضى اللطف تأييدها بالأحكام الشرعية ، كما ذهب إليه بعض.
وأما إذا قلنا بترتّب العقوبة على مخالفة الأحكام العقلية ، فلا بدّ إما من القول بكون المراد من الرسول في الآية مطلق البيان ، سواء كان بتوسّط الرسول الظاهر أو الرسول الباطن ، وإنّما عبّر [ عن ] مطلق البيان ببعث الرسول لأنّ الغالب تحقّق البيان به ، أو المراد من الرسول مطلقه سواء أكان عقلا أو
__________________
(١) في مجمع البيان : جميع أعماله وما كتب.
(٢) تفسير العياشي ٣ : ٤١ / ٢٤٧٧ ، مجمع البيان ٦ : ٦٢٢ ، تفسير الصافي ٣ : ١٨٢ ، والآية من سورة الكهف : ١٨ / ٤٩.