ثمّ أنّه تعالى بعد بيان اغترارهم بالنّعم الآخرة ، أو استهزائهم بها ، بيّن غرورهم بالأصنام وغاية حمقهم بقوله : ﴿وَاتَّخَذُوا﴾ واختاروا لأنفسهم ﴿مِنْ دُونِ اللهِ﴾ ومن مخلوقاته ﴿آلِهَةً﴾ ومعبودين ﴿لِيَكُونُوا﴾ تلك الآلهة ﴿لَهُمْ﴾ في الدنيا والآخرة ﴿عِزًّا﴾ وسببا للنيل بالمقاصد ، أمّا في الدنيا فبإنجاح حوائجهم ، وأمّا في الآخرة فبشفاعتهم عند الله ، ونصرتهم لهم ، وإنجائهم إيّاهم من العذاب ، فردعهم الله عن هذا التوهّم الفاسد بقوله : ﴿كَلَّا﴾ ليس كما توهّموه ، بل ﴿سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ﴾ وينكرون ولايتهم حين يرون سوء عاقبتهم ، ويقولون : ما كنّا مشركين ﴿وَيَكُونُونَ﴾ حين مشاهدة أصنامهم ﴿عَلَيْهِمْ ضِدًّا﴾ وأعداء بعد أن كانوا لهم محبّين كحبّ الله.
قيل : إنّ ضمائر الصّيغ كلّها راجعة إلى الأصنام ، والمعنى ستكفر الأصنام ، ويجحدون عبادتهم ، لأنّهم كانوا جمادات لم يشعروا بعبادتهم ، ويكونون أعوانا على ضررهم ، وذلك أنّ الله تعالى يركّب فيهم العقول فينطقهم فيقولون : يا ربّ عذّب هؤلاء الذين عبدونا (١) .
وقيل : إنّ المراد من الضدّ ضدّ العز [ وهو الذّلّ والهوان ](٢) ، والمعنى : يكونون عليهم ذلا وهوانا ، وإنّما أفرد الضدّ لفرض وحدة الكلّ.
وقيل : إنّ المراد بالآلهة الملائكة ، لأنّهم في الآخرة يكفرون بعبادتهم (٣) ، ويقولون : سبحانك أنت ولينا من دونهم ، بل كانوا يعبدون الجنّ.
عن الصادق عليهالسلام في هذه الآية : « أي يكونون هؤلاء الّذين اتّخذوا آلهة من دون الله ضدّا يوم القيامة ، ويتبرؤون منهم ومن عبادتهم » ثمّ قال : « ليس العبادة هي السجود والرّكوع ، وإنّما هي طاعة الرجال ، من أطاع مخلوقا في معصية الخالق فقد عبده » (٤) .
أقول : يعني ليس العبادة منحصرة في الرّكوع والسّجود ، فالآية تعمّ عبادة الأصنام وطاعة رؤساء الضلال.
﴿أَ لَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا * فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ
إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٣) و (٨٤)﴾
ثمّ نبّه سبحانه على أنّ استيلاء الشياطين عليهم بعثهم إلى عبادة الأصنام بقوله : ﴿أَ لَمْ تَرَ﴾ ولم تعلم يا محمّد ﴿أَنَّا أَرْسَلْنَا﴾ وسلّطنا ﴿الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ﴾ بسبب خبث ذاتهم وسوء اختيارهم ، وخلّينا بينهم وبينهم ﴿تَؤُزُّهُمْ﴾ وتغريهم وتهيّجهم على المعاصي والشّرور وعبادة الأصنام ﴿أَزًّا﴾
__________________
(١) تفسير روح البيان ٥ : ٣٥٥.
(٢ و٣) تفسير الرازي ٢١ : ٢٥٠.
(٤) تفسير القمي ٢ : ٥٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٩٢.