مع حكم العقل بوجوب إتيانه ﴿مُعْرِضُونَ﴾ عن الآيات المنبّهة لهم عن غفلتهم.
وفي إسناد الاقتراب إلى الحساب لا إلى النّاس ، للدّلالة على أنّه مقبل إليهم ، كأنّه يطلبهم ويصل إليهم لا محالة ، وتقديم ﴿لِلنَّاسِ﴾ على ﴿حِسابُهُمْ﴾ للمسارعة إلى إرعابهم.
ثمّ وبّخهم على إعراضهم عن الآيات القرآنية بقوله : و﴿ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ﴾ ووعظ ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾ في القرآن يذكّرهم الحساب أكمل تذكير ﴿مُحْدَثٍ﴾ وقتا بعد وقت ﴿إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ﴾ به ويسخرون منه ، وهم (١)﴿لاهِيَةً﴾ ومتشاغلة ﴿قُلُوبُهُمْ﴾ عمّا يهمّهم من عواقب أمرهم وحال ما بعد موتهم بما لا يفيدهم من أمر الدنيا وجمع زخارفها والالتذاذ بشهواتها.
ثمّ بيّن سبحانه علّة استهزائهم بالقرآن أنّها إنكارهم الرسالة الذّي هو أثر جناياتهم بقوله : ﴿وَأَسَرُّوا النَّجْوَى﴾ وبالغوا في إخفاء ما تناجوا به ، أو أسرّوا نفس تناجيهم حتى لا يشعر أحد به ، وهم ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أنفسهم بأفحش الظّلم في ما أسرّوا به ، وقالوا في نجواهم قدحا في رسالة محمّد صلىاللهعليهوآله : ﴿هَلْ هذا﴾ الرجل ﴿إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ يأكل ويمشي فلا مزيّة له عليكم حتى يكون رسولا ، وما أتى بمعجزة ، بل ما أتى به فهو سحر ﴿أَ فَتَأْتُونَ السِّحْرَ﴾ وتحضرونه وتقبلونه منه ﴿وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ وتعاينون أنّه سحر ؟ وإنّما قالوا ذلك لاعتقادهم أنّه لا يكون الرسول إلّا ملكا ، ولا يكون ما يأتي البشر إلّا سحرا.
﴿قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * بَلْ قالُوا
أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ * ما
آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَ فَهُمْ يُؤْمِنُونَ * وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً
نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا
يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٤) و (٨)﴾
ثمّ حكى سبحانه قول نبيّه صلىاللهعليهوآله بعد إطّلاعه على سرّهم بالوحي بقوله : ﴿قالَ﴾ الرسول : إن كنتم أخفيتم قولكم منّي ، وطعنكم في رسالتي ، لا تقدرون على إخفائه من الله ، لأنّ ﴿رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ﴾ الّذي يكون ﴿فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ﴾ سرّا كان أو جهرا ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ﴾ للمسموعات من الأقوال
__________________
(١) لا يصحّ موقع ( وهم ) الإعرابي مع لفظ الآية إلّا على رفع ( لاهية ) والرفع قراءة. قال صاحب الكشاف : ( وهم يلعبون لاهية قلوبهم ) حالان مترادفان ، أو متداخلان ، ومن قرأ ( لاهية ) بالرفع فالحال واحدة ؛ لأن ( لاهية قلوبهم ) خبر بعد خبر لقوله ( وهم ) . الكشاف ٣ : ١٠٢.