ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات كون القرآن العظيم نازلا من ربّ العالمين بتوسّط جبرئيل ، دعا الناس إلى التوحيد المقصود من إنزاله بنهي نبيه عن الاشراك الدالّ على إرادة نهي امّته عنه بقوله : ﴿فَلا تَدْعُ﴾ ولا تعبد يا محمّد ﴿مَعَ اللهِ﴾ المنزل للقرآن ﴿إِلهاً آخَرَ﴾ ومعبودا غيره ﴿فَتَكُونَ﴾ إذن مع كمال قربك من الله ومحبوبيّتك عنده ﴿مِنَ الْمُعَذَّبِينَ﴾ بأشدّ العذاب ، فكيف بغيرك ؟ ثمّ بعد نهية عن الشرك وإنذاره وتحذيره عنه ، أمره بإنذار أقاربه الأقرب فالأقرب بقوله : ﴿وَأَنْذِرْ﴾ وخوّف من عقاب الله على الشّرك وعصيانه ﴿عَشِيرَتَكَ﴾ وأرحامك ﴿الْأَقْرَبِينَ﴾ منهم فالأقربين ، لأنّ الاهتمام بشأنهم أهمّ ، فالبدأة بإنذارهم أولى ، ولأنّ تأثير كلامه في الأجانب والأبعدين بعد التشدّد على نفسه ، ثمّ على الأقرب فالأقرب منه أشد.
روي أنّه لمّا نزلت [ هذه ] الآية صعد عليهالسلام الصّفا فنادى الأقرب فالأقرب ، وقال : « يا بني عبد المطلب ، يا بني هاشم ، يا بني عبد مّناف ، يا عباس عمّ محمّد ، يا صفية عمّة محمّد ، إنّي لا أملك لكم من الله شيئا ، سلوني من المال ما شئتم » (١) .
وفي رواية قال : « افتدوا أنفسكم من النار ، فانّي لا اغني عنكم من الله شيئا (٢) ، أطيعوني واعترفوا بتوحيد الله ورسالتي تنجوا من العذاب ، وسلوني من المال ما شئتم.
وفي رواية : [ أنه ] جمع بني عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلا على رجل شاة وقعب (٣) من لبن ، وكان الرجل منهم يأكل الجدعة ويشرب العسّ (٤) ، فأكلوا وشربوا ثمّ قال : « يا بني عبد المطلب ، لو أخبرتكم أنّ بسفح هذا الجبل خيلا أكنتم مصدّقي ؟ » قالوا : نعم. فقال : « إنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد » (٥) .
وروي عن البراء بن عازب (٦) أنه لمّا نزلت الآية أرسل النبيّ صلىاللهعليهوآله إلى بني عبد المطلب ، فجمعوا في دار عمّه أبي طالب ، وكانوا أربعين رجلا ، فأمر عليا عليهالسلام أن يطبخ لهم فخذ شاة ومدّا من حنطة فوضع الطعام عندهم ، وأتاهم بصاع من لبن ، وكان كلّ منهم يأكل جدعا (٧) ويشرب عليه عسا من لبن ، فلمّا رأوا الطعام الذي أحضره عليّ عليهالسلام عندهم ضحكوا وقالوا : هذا الطعام لا يكفي واحدا منّا ! فقال النبي صلىاللهعليهوآله : « كلوا بسم الله » فأكلوا منه عشرة عشرة حتّى شبعوا ، فقال : « اشربوا بسم الله » فشربوا الصاع من اللبن حتى رووا جميعا ، فلما رأوا ذلك المعجز قال أبو لهب : هذا ما سحركم به الرجل فسكت
__________________
(١) تفسير الرازي ٢٤ : ١٧٢.
(٢) تفسير روح البيان ٦ : ٣١١.
(٣) القعب : القدح الضخم الغليظ.
(٤) العس : القدح الكبير.
(٥) تفسير الرازي ٢٤ : ١٧٣.
(٦) في النسخة : عن غارب.
(٧) الجذع من الضأن : ما بلغ ثمانية أشهر أو تسعة.