ثمّ قرّر سبحانه سعة علمه بقوله : ﴿وَما مِنْ غائِبَةٍ﴾ وأمر خفيّ غاية الخفاء ﴿فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا﴾ وهو مكشوف عنده ، ومكتوب ﴿فِي كِتابٍ مُبِينٍ﴾ واللوح المحفوظ الظاهر للناظرين فيه من الأنبياء الصالحين والملائكة المقرّبين.
ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات توحيده وسعة قدرته وعلمه المستلزمة للمعاد ، شرع في إثبات نبوة نبيه باعجاز القرآن بقوله : ﴿إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ﴾ الذي جاء به محمد الامّي الذي لم يخالط عالما ، ولم يستفد من أحد العلماء ، ولم يقرأ كتابا ﴿يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ﴾ ويبيّن لهم ﴿أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ كشأن عيسى وعزير ، والمعارف الالهية من التشبيه والتنزيه ، وأحوال المعاد والجنّة والنار ، وقصص الأنبياء وغيرها ، حتى لعن بعضهم بعضا ، ﴿وَإِنَّهُ﴾ بفصاحته وبلاغته البالغتين حدّ الإعجاز ، ومطابقة ما فيه من المعارف والأحكام للعقول السليمة ، وخلوّة من التناقض والتهافت ﴿لَهُدىً﴾ ورشاد إلى نبوّة محمّد صلىاللهعليهوآله وسائر العقائد الحقّة ﴿وَرَحْمَةٌ﴾ ووسيلة للفوز إلى السعادة الأبدية والمقامات العالية ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ.﴾
﴿إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ * فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى
الْحَقِّ الْمُبِينِ * إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا
مُدْبِرِينَ * وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا
فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٧٨) و (٨١)﴾
ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر اختلاف الناس ، بين أنّه مع إنزاله القرآن الرافع للاختلاف ، يكون هو الحاكم بينهم يوم القيامة بقوله : ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾ حين حضور المصيب والمخطئ عنده يوم القيامة ﴿يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ﴾ العدل وفصله الحقّ ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ القادر على إنفاذ حكمه من غير مدافع ومزاحم و﴿الْعَلِيمُ﴾ بكلّ شيء ، ومنه الحقّ الذي اختلفوا فيه ، فلا تكن من اختلافهم في تعب ، فاذا كان ربّك قادرا على حفظك عالما بحالك ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ وفوّض أمرك إليه ، ولا تبال بهم ، ولا تلتفت إلى اختلافهم ﴿إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ﴾ والدين الواضح صحّته ، ومن المعلوم أنّ من هو على الحقّ حقيق بنصر الله.
ثمّ ذمّ سبحانه المخالفين له ، المصرّين على الكفر والباطل ، وقطع طمعه عن هدايتهم وإيمانهم ، إراحة لقلبه الشريف من تعب اجتهاده في دعوتهم بقوله : ﴿إِنَّكَ﴾ لا تقدر على هداية هؤلاء الكفرة ؛ لأنّهم بمنزلة الموتى ، لسقوط قلوبهم عن قابلية الانتفاع بالآيات واستماع الدلائل والبراهين والاتّعاظ