بيان ، بيّن أنّ جميع القرآن في البيان في درجة الإعجاز بقوله : ﴿وَكَذلِكَ﴾ الإنزال البديع المنطوي على الحكم البالغة في هذا القرآن ﴿أَنْزَلْناهُ﴾ كلّه حال كون جميعه ﴿آياتٍ بَيِّناتٍ﴾ والبيانات البالغة حدّ الإعجاز الواضحات الدلالة على المعاني الرائقة اللطيفة مع غاية الإيجاز ﴿وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي﴾ به إلى الحقّ والدرجات العالية في الدنيا والآخرة ﴿مَنْ يُرِيدُ﴾ هدايته إليها.
قيل : إنّ التقدير ولأنّ الله يهدي من يريد أنزله كذلك ، أو الأمر أنّ الله يهدي ، إلى آخره (١) .
في الحديث : « أنّ الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ، ويضع به آخرين » (٢) .
ثمّ بيّن الله الفرقة المهديّة والفرق الضّلّال ، وأخبرهم بإعطاء كلّ منهم ما يستحقّه بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بما يجب الإيمان به ﴿وَالَّذِينَ هادُوا﴾ واتّخذوا الملّة اليهوديّة ﴿وَالصَّابِئِينَ﴾ وعبدة الملائكة والكواكب الخارجين عن الأديان كلّها ، وقيل : هم المتديّنون بدين نوح (٣)﴿وَالنَّصارى﴾ الّذين اختاروا دين المسيح ﴿وَالْمَجُوسَ﴾ الذين عبدوا النّار ﴿وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ وعبدوا الأصنام ﴿إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ﴾ ويقضي ﴿بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ﴾ بإثابة المؤمنين ، وتعذيب الفرق الخمس الاخر المتفقين على الكفر ، ولا تخفى عليه بواطنهم وظواهرهم ومقدار استحقاقهم وما يستحقّون ، بل ﴿إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ﴾ من خفيّات عوالم الملك والملكوت وجليّاتها ﴿شَهِيدٌ﴾ وبها عليم.
﴿أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ
وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ
الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (١٦) و (١٨)﴾
ثمّ بيّن سبحانه ما يوجب الفصل بينهم من التوحيد والشّرك والخضوع لله والاستنكاف منه بقوله : ﴿أَ لَمْ تَرَ﴾ ولم تعلم أيّها الّذي من شأنك العلم ﴿أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ﴾ ويخضع ﴿لَهُ﴾ وحده وينقاد لحكمه طوعا أو كرها ﴿مَنْ فِي السَّماواتِ﴾ من الملائكة ﴿وَمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ من الثّقلين ﴿وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُ﴾ كالوحوش والطيور ونظائرهما ﴿وَ﴾ يسجد له ﴿كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ﴾ سجود طاعة وعبادة ، أو يوحّده : كما عن ابن عباس (٤) . أو في الجنّة ، أو حقّ له الثواب ﴿وَكَثِيرٌ﴾ منهم ﴿حَقَ﴾ وثبت ﴿عَلَيْهِ الْعَذابُ﴾ بكفره وإشراكه وعصيانه ﴿وَمَنْ يُهِنِ اللهُ﴾ ويشقيه بخذلانه وتعذيبه ﴿فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ﴾ يكرمه بإسعاده وإثابته ﴿أَنَّ اللهَ﴾ وحده هو الذي
__________________
(١) تفسير أبي السعود ٦ : ١٠٠.
(٢) تفسير روح البيان ٦ : ١٤.
(٣) تفسير روح البيان ٦ : ١٥.
(٤) تفسير الرازي ٢٣ : ٢٠.