نفسه.
ثمّ لمّا كان فرعون مدّعيا أنه خالق أهل عصره دون الذين كانوا قبله عقبه بقوله : ﴿وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ﴾ فانّ المستحقّ للربوبية هو الذي يكون ربا لجميع الأعصار ، فلمّا لم يفهم فرعون حقيقة الجواب ﴿قالَ﴾ لأهل مجلسه استهزاء بموسى عليهالسلام : ﴿إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾ حيث إنّه لا يفهم السؤال ولا يعرف الجواب ﴿قالَ﴾ موسى عليهالسلام وهو غير معتن بكلامه السّفهي زيادة في تعريف الربّ هو ﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ ومطلع الشمس ومغيبها ﴿وَما بَيْنَهُما﴾ من الموجودات ، وإنّكم ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ شيئا وتميّزون بين صحيح الكلام وسقيمه ، علمتم أنّ حقّ الجواب عن سؤالكم ما قلت ، وأنّه لا جواب عنه الا ما ذكرت إذ معرفة حقيقة الربّ غير معقولة حيث إنّها بسيطة لا جنس لها ولا فصل ، فاذن لا يمكن تعريفها إلّا بآثارها وأفعالها وعجائب صنعها ، ومن الواضح أنّ سير الشمس من المشرق إلى المغرب على وجه نافع ينتظم به امور الخلق ، لا يكون إلّا بتدبير القدير الحكيم اللطيف الخبير ، ولا تتوقّف الرسالة على معرفة ذات المرسل بكنهها ، بل هي متوقّفه على معرفته بآثاره.
﴿قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ * قالَ أَ وَلَوْ جِئْتُكَ
بِشَيْءٍ مُبِينٍ * قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ
ثُعْبانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٢٩) و (٣٣)﴾
ثمّ لمّا عجز فرعون عن معارضة موسى بالحجّة ، عدل إلى التهديد تمرّدا وطغيانا و﴿قالَ :﴾ يا موسى ، وعزّني ﴿لَئِنِ اتَّخَذْتَ﴾ واخترت ﴿إِلهَاً غَيْرِي﴾ ومعبودا سواي ﴿لَأَجْعَلَنَّكَ﴾ البتّة ﴿مِنَ﴾ جملة ﴿الْمَسْجُونِينَ﴾ وفي زمرة المحبوسين. قيل : كان يسجنهم في حفرة عميقة حتى يموتوا (١) .
﴿قالَ﴾ موسى عليهالسلام : اتفعل ذلك ﴿أَ وَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ﴾ ومعجز ﴿مُبِينٍ﴾ وموضّح لصدق دعواي في الرسالة ؟ ﴿قالَ﴾ فرعون : ﴿فَأْتِ بِهِ﴾ وأظهره لي ﴿إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ في دعوى الرسالة والمعجزة.
قيل : كان في يد موسى عصاه ، فقال لفرعون : ما هذه التي بيدي ؟ قال فرعون : هذه عصا (٢)﴿فَأَلْقى﴾ موسى ﴿عَصاهُ﴾ من يده على الأرض ﴿فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ﴾ وحيّة عظيمة ظاهرة ، لم يشكّ أحد
__________________
(١) تفسير أبي السعود ٦ : ٢٤٠ ، تفسير روح البيان ٦ : ٢٧٠.
(٢) تفسير روح البيان ٦ : ٢٧٠.