ولدا زكيّا ﴿وَجَعَلْناها وَابْنَها﴾ عيسى ﴿آيَةً﴾ عظيمة ودلالة واضحة على قدرتنا الكاملة ﴿لِلْعالَمِينَ﴾ وأهالي الأعصار إلى يوم الدين حيث إنّ مريم ولدت من عجوز عقيم وتكلّمت في الصّبا كما قيل (١) ، وارتزقت ممّا يأتيها من عند ربّها الكريم ، واحتبلت بغير فحل ، وإنّ ابنها عيسى عليهالسلام ولد بنفخ الرّوح الأمين ، وتكلّم في المهد كما تكلّم في الكهولة ، وأظهر الآيات البيّنات ، ورفع في السماء حيّا ، وإنّما عدّهما آية واحدة مع تعدّدهما لكمال ارتباطهما.
ثمّ أنّه تعالى بعد بيان قصص الأنبياء واتّفاقهم على توحيد الله وعبادته ، دعا الناس إليهما بقوله :
﴿إِنَّ هذِهِ﴾ الملّة الإسلاميّة ودين التوحيد ﴿أُمَّتُكُمْ﴾ وملّتكم التي يجب عليكم المحافظة عليها أيّها الناس حال كونها ﴿أُمَّةً﴾ وملّة ﴿واحِدَةً﴾ إتّفق عليها جميع الأنبياء والرسل من أوّل الدنيا إلى فنائها ﴿وَأَنَا﴾ وحدي ﴿رَبُّكُمْ﴾ وإلهكم المدبّر لاموركم ، فإذا علمتم ذلك ﴿فَاعْبُدُونِ﴾ واخضعوا لي ، وتضرّعوا ولا تجاوزوا عنّي إلى غيري.
ثمّ صرف الله الخطاب عنهم إلى العقلاء ، أو إلى نبيّه صلىاللهعليهوآله إعظاما لما ارتكبه المشركون من الإشراك بقوله : ﴿وَتَقَطَّعُوا﴾ وفرّقوا ﴿أَمْرَهُمْ﴾ ودينهم الذي اتّفقت عليه كلمة الأنبياء ﴿بَيْنَهُمْ﴾ وصاروا فرقا مختلفة وأحزابا شتّى.
ثمّ هدّدهم بقوله : ﴿كُلٌ﴾ من آحاد الفرق ﴿إِلَيْنا﴾ بعد موتهم ﴿راجِعُونَ﴾ فنجازيهم بحسب عقائدهم وأعمالهم.
﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ *
وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٤) و (٩٥)﴾
ثمّ بيّن سبحانه الفرقة الحقّة منهم بقوله : ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ بالله ورسله وخلفائهم والدّار الآخرة ﴿فَلا كُفْرانَ﴾ منّا ﴿لِسَعْيِهِ﴾ ولا حرمان له من ثواب عمله ، بل نشكره أعظم الشّكر ، ونعطيه أفضل الأجر على عمله وإيمانه ﴿وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ﴾ في صحيفته ومثبتوه في دفتره.
ثمّ بالغ سبحانه في تقرير رجوع الناس إليه للمجازاة بقوله : ﴿وَحَرامٌ﴾ وممتنع ﴿عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها﴾ بإهلاك أهلها ﴿أَنَّهُمْ﴾ في القيامة ﴿لا يَرْجِعُونَ﴾ إلينا للحساب وجزاء الأعمال ، بل يجب رجوعهم بمقتضى العدل والحكمة البالغة.
وقيل : إنّ المعنى وواجب على قرية أهلكناها أن لا يرجعوا إلى التوحيد ، أو إلى الدنيا (٢) .
__________________
(١) تفسير روح البيان ٢٢ : ٢١٨.
(٢) تفسير الرازي ٢٢ : ٢٢١.