يكن على بصيرة ، بل كان عن خوف من قهر موسى وسلطانه ، وإظهارا للجلادة والوقاحة مع غاية خوفه من موسى عليهالسلام حفظا لناموسه وترويجا لأمره ، فتجلّد السّحرة في الجواب عن تهديده و ﴿قالُوا﴾ غير مكترثين بوعيده : إنّا ﴿لَنْ نُؤْثِرَكَ﴾ ولا نختارك بالإيمان والاتّباع أبدا ﴿عَلى ما جاءَنا﴾ من الله على يد موسى ﴿مِنَ﴾ المعجزات ﴿الْبَيِّناتِ﴾ والبراهين الواضحات التي لا ريب في حقّانيّتها ﴿وَ﴾ حقّ ﴿الَّذِي فَطَرَنا﴾ وخلقنا لا نؤثرك.
وقيل : إنّ ( الواو ) في ﴿وَالَّذِي﴾ عاطفة ، والمعنى : لن نؤثرك على ما جاءنا وعلى الّذي فطرنا وخلقنا وخلق سائر المخلوقات (١)﴿فَاقْضِ﴾ يا فرعون في حقّنا ﴿ما أَنْتَ قاضٍ﴾ واحكم فيه ما أنت حاكم ، أو افعل بنا ما أنت فاعله ، فإنّا لا نخاف ولا نبالي ، وكيف نخاف منك ولا نخاف من الله ؟ أو كيف نؤثرك ولا نؤثر الله ؟ والحال أنّه ﴿إِنَّما تَقْضِي﴾ وتصنع ما تهواه أو تحكم بما تراه في ﴿هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا﴾ التي تزول بسرعة ، وإن لم تقض ، وليس لك علينا بعد انقضائها قضاء ، فالله يقضي في الدنيا والآخرة ، وقضاء الله وعذابه أشدّ وأبقى ، بل لا انقضاء له ولا نجاة منه.
وأمّا ما نبّهت عليه وأشرت إليه من أنّ إيماننا كان للمواطأة مع موسى أو للخوف منه ، فليس كذلك ، بل ﴿إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا﴾ وذنوبنا التي سلفت منّا قبل إيماننا ﴿وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ﴾ عمل ﴿السِّحْرِ﴾ ومعارضة الرسول ، أو تعلّمه وتعليمه ، كما عن ابن عباس (٢) ، لا للأغراض الدنيويّة حتى يصرفنا عنه وعيدك بالقطع والصّلب ﴿وَاللهُ خَيْرٌ﴾ وأنفع لنا منك ومن كلّ أحد ﴿وَأَبْقى﴾ جزاء ، ثوابا كان أو عقابا ، أو خير منك ثوابا إن آمنّا به وأطعناه ، وأبقى منك عذابا إن كفرنا به وعصيناه.
وإنّما خصّوا السّحر الذي أكرههم عليه فرعون بالذّكر - مع كونه داخلا في عموم الخطايا - لإظهار غاية نفرتهم منه ، وللإيذان بأنّ معارضة الرسول - وإن كان بالإكراه - ممّا يجب أن يفرد بالاستغفار.
روى بعض العامة أنّ رؤساء السّحرة كانوا اثنين وسبعين ؛ اثنان منهم من القبط ، والباقي من بني إسرائيل ، وكان فرعون أكرههم على تعلّم السّحر (٣) . وقيل : أكرههم على معارضة موسى (٤) .
وروي أنّهم قالوا لفرعون : أرنا موسى نائما ففعل ، فوجدوه تحرسه عصاه ، فقالوا : ما هذا بسحر ، فإنّ الساحر إذا نام بطل سحره ، فأبى فرعون إلّا أن يعارضوه (٥) .
﴿إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى * وَمَنْ يَأْتِهِ
__________________
(١) تفسير روح البيان ٥ : ٤٠٦.
(٢) تفسير الرازي ٢٢ : ٨٩.
(٣ - ٥) تفسير الرازي ٢٢ : ٨٩ ، تفسير أبي السعود ٦ : ٣٠.