موسى عليهالسلام أنّ الأرض كلّها حيّات ، وأنّها تسعى فخاف ، فلمّا قيل له : ﴿أَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ﴾ ألقى موسى عصاه ، فإذا هي حيّة أعظم من حيّاتهم ، ثمّ أخذت تزداد عظما حتى ملأت الوادي ، ثمّ صعدت وعلت حتى علّقت ذنبها بطرف القبّة ، ثمّ هبطت فأكلت كلّ ما عملوا في الميلين ، والنّاس ينظرون إليها لا يحسبون إلّا أنّه سحر ، ثمّ أقبلت نحو فرعون لتبتلعه فاتحة فاها ثمانين ذراعا ، فصاح بموسى فأخذها وهي عصا [ كما ] كانت ، ونظرت السّحرة فإذا هي لم تدع من حبالهم وعصيّهم شيئا إلّا أكلته ، فعرفت السّحرة أنّه ليس بسحر ، وقالوا : أين حبالنا وعصيّنا ؟ لو لم تكن (١) سحرا لبقيت (٢) ﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ﴾ وخرّوا على الأرض بسرعة وشدّة ، كأنّه ألقاهم غيرهم حال كونهم ﴿سُجَّداً﴾ لله خاضعين لعظمته وقدرته بعد ما رأوا من إعجاز العصا.
قيل : ما أعجب [ أمر ] هم ألقوا حبالهم للكفر والجحود ، وألقوا نفوسهم للتّعظيم والسّجود (٣) بعد ساعة ، فما أعظم الفرق بين القائلين ! و﴿قالُوا﴾ في سجودهم بصوت عال : ﴿آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى .﴾
قيل : إنّما لم يقولوا بربّ العالمين ، لأنّ موسى وهارون دعياهم إلى الإيمان به ، وكيلا يتوهّم أنّ مرادهم فرعون ، لأنّه كان مربّي موسى عليهالسلام (٤) .
روي أنّهم لم يرفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنّة والنّار (٥) .
وعن عكرمة : لمّا خرّوا سجّدا أراهم الله منازلهم التي يصيرون إليها في الجنّة (٦) .
ثمّ قيل : لمّا شاهد فرعون إيمانهم بموسى عليهالسلام ، خاف من أن يقتدي بهم سائر الناس (٧) ، فادّعى أنّ إيمانهم كان للتّباني مع موسى عليهالسلام ، ولذا ﴿قالَ﴾ توبيخا لهم ﴿آمَنْتُمْ لَهُ﴾ واتّبعتموه ﴿قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ﴾ في الإيمان له ، مع أنّي ربّكم وأميركم ، وإنّما كان إيمانكم لأنّكم تلامذته و﴿إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ﴾ واستاذكم ﴿الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ﴾ فواطأتم معه على أن يظهروا العجز من أنفسكم عن معارضته ترويجا لأمره ، وتعظّما لشأنه ، وأداء لحقّ تعليمه.
ثمّ هدّدهم بقوله ﴿فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ﴾ بأن أقطع من شقّ يدا ، ومن شقّ رجلا ﴿وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ﴾ وأعلّقنّكم ﴿فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾ وعلى اصوله ، لتكونوا عبرة لغيركم ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى﴾ وأدوم نكالا أنا أو موسى ، أو أنا أو ربّه ، وفي كلامه هذا إيماء إلى أنّ إيمانهم لم
__________________
(١) في النسخة : لو كانت.
(٢) تفسير الرازي ٢٢ : ٨٢.
(٣) تفسير روح البيان ٥ : ٤٠٥.
(٤) تفسير الرازي ٢٢ : ٨٧ ، تفسير أبي السعود ٦ : ٢٨.
(٥ و٦) تفسير الرازي ٢٢ : ٨٦.
(٧) تفسير الرازي ٢٢ : ٨٧.