قيل : إنّما طلبوا العذاب لاستبعادهم وقوعه ، وظنّهم بأنّه إذا لم يقع ظهر كذبه (١) . فعند ذلك ﴿قالَ﴾ شعيب : ﴿رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ﴾ من الإصرار على الكفر والتكذيب ، فيعامل معكم بما تستحقّون ، فأمركم مفوّض إليه ﴿فَكَذَّبُوهُ﴾ بعد وضوح الحقّ وتمامية الحجّة كما كذّبوه من قبل ﴿فَأَخَذَهُمْ﴾ وشملهم ﴿عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ﴾ حسبما اقترحوه.
روي أنّه حبس عنهم الريح سبعا ، وسلّط عليهم الرمل ، فأخذ بأنفاسهم ، لا ينفعهم الظل والماء ، فاضطرّوا إلى الخروج إلى البرّ ، فاظلّتهم سحابة وجدوا لها بردا ونسيما ، فاجتمعوا تحتها ، فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا (٢)﴿إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ بعظم ما وقع فيه من العذاب.
روي أنّه عليهالسلام بعث إلى أصحاب مدين وأصحاب الأيكة ، فأهلكت مدين بصيحة جبرئيل عليهالسلام وأصحاب الأيكة بعذاب يوم الظلّة (٣)﴿إِنَّ فِي ذلِكَ﴾ العذاب الهائل ﴿لَآيَةً﴾ وعبرة للنّاس ﴿وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.﴾
قيل : لم يؤمن من أصحاب الأيكة أحدا ، وإنّما آمن به جمع من أهل مدين (٤) .
﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ
الْمُنْذِرِينَ * بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٢) و (١٩٥)﴾
ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر القصص التي كان الإخبار بها من النبيّ الامي من الإخبار بالمغيّبات ، أعلن بكون القرآن نازلا منه بقوله : ﴿وَإِنَّهُ﴾ بدلالة إعجاز البيان والاشتمال على المغيبات والله ﴿لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ﴾ لا اختلاق البشر ﴿نَزَلَ بِهِ﴾ بأمره جبرئيل الذي يقال له ﴿الرُّوحُ الْأَمِينُ﴾ على وحيه، وتلاه عليك بحيث وعاه قلبك وحفظه كأنه نزل به أولا ﴿عَلى قَلْبِكَ﴾ ثمّ على ظاهرك.
وقيل : لمّا كان المخاطب في الحقيقة القلب لكونه محل التميّز والاختبار وسائر الأعضاء مسخرة له (٥) ، يكون هو محلّ النزول في الحقيقة ، فكأنّه قال : نزل عليك بحيث تفهمه حقّ الفهم ﴿لِتَكُونَ﴾ منذرا ﴿مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾ ورسولا من المرسلين الذين ارسلوا ﴿بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ واضح المعنى لقومهم ، كهود وصالح وشعيب وإسماعيل ، أو المراد نزل به على قلبك بلغة عربية حتى لا يقول قومك : لا نفهم كتابك.
عن أحدهما عليهماالسلام أنّه سئل عنه فقال : « يبين الألسن ، ولا تبينه الالسن » (٦) .
__________________
(١-٣) تفسير الرازي ٢٤ : ١٦٤.
(٤) تفسير روح البيان ٦ : ٣٠٥.
(٥) تفسير الرازي ٢٤ : ١٦٦.
(٦) الكافي ٢ : ٤٦٢ / ٢٠ ، تفسير الصافي ٤ : ٥١.