ودفعهم عن باطلهم بهذا القرآن ، أو بسبب علوّ قدرك ، أو بسب كونك نذير جميع القرى ﴿جِهاداً كَبِيراً﴾ وعظيما.
قيل : يعني جامعا لمجاهدات الرسل الكثيرة (١) .
قيل : إن توصيف مجاهدته بالقرآن بالكبر ، لأنّه أكبر وأعظم من الجهاد بالسيف (٢) .
﴿وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما
بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً
وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٣) و (٥٤)﴾
ثمّ بالغ سبحانه في بيان كمال قدرته بقوله : ﴿وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ﴾ وأرسل ، أو خلط ، أو خلّى ﴿الْبَحْرَيْنِ﴾ والماء العظيمين في مجاريهما حال كونهما ممتازين كلّ من الآخر بحيث يقال : ﴿هذا﴾ الماء ﴿عَذْبٌ فُراتٌ﴾ وطيب رافع للعطش لغاية عذوبته وطيبه ﴿وَهذا﴾ الماء الآخر ﴿مِلْحٌ أُجاجٌ﴾ بليغ في الملوحة ﴿وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً﴾ وحاجزا وحائلا من الأرض ، أو من قدرته ، كأنّه يتنفّر كلّ منهما من الآخر ، ويقول له : ﴿وَحِجْراً مَحْجُوراً﴾ كما يقول الرجل ذلك لعدوّه تعوّذا من شرّه ، والمعنى أنّه يقول كلّ من البحرين للآخر : حرام محرّم عليك أن تختلط بي ، وتغلب عليّ ، وتزيل صفتي ، أو المراد تنافرا بليغا ، أو حدا محدودا ، والظاهر أنّ المراد بالبحر العذب الأنهار الكبار كالنّيل والفرات ودجلة ، ومن الملح الاجاج البحر المعهود ، لما قيل من أنّه لا وجود للبحر العذب (٣) .
قيل : إنّ دجلة تدخل في بحر فارس ، وهو المسمّى بالبحر الأخضر ، وتجري في خلاله فراسخ لا يتغيّر طعمها (٤) .
وقيل : إنّ النيل يدخل في البحر الأخضر (٥) ، وهو بحر فارس ، وهو على عذوبته ، والبحر مرّ زعاق.
ثمّ إنّه تعالى بعد بيان كمال قدرته بصنعه في الماء ، بيّن قدرته بخلق الانسان الذي هو أحسن مخلوقاته وأشرفها منه بقوله : ﴿وَهُوَ﴾ القادر ﴿الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ﴾ الدافق المخلوق في أصلاب الرجال ﴿بَشَراً﴾ وإنسانا ينطوي فيه العالم الكبير ﴿فَجَعَلَهُ﴾ أو جعل الماء ﴿نَسَباً﴾ وذكرا ينسب إليه ويقال : فلان بن فلان ﴿وَصِهْراً﴾ وإناثا يتزوّج بهنّ.
والظاهر أنّ النسب القرابة بالولادة ، والصّهر القرابة بالتزويج ﴿وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً﴾ بحيث لا حدّ
__________________
(١) تفسير الرازي ٢٤ : ١٠٠.
(٢) تفسير الصافي ٤ : ١٩ ، تفسير روح البيان ٦ : ٢٢٧.
( ٣-٥ ) تفسير روح البيان ٦ : ٢٢٩.