ثمّ أنّه تعالى بعد إكثار الأدلّة على بطلان الشّرك وتكرارها على التوحيد وعدم انتفاع المشركين بها ، والإبلاغ في وعدهم بالعذاب وعدم مبالاتهم به ، ومبالغتهم في الاستعجال بوعد الرسول إستهزاء به ، أمر نبيّه صلىاللهعليهوآله بالتبليغ والاهتمام بأداء وظيفة الرسالة ، وعدم الاعتناء بترّهاتهم بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمّد للمشركين المستهزئين بك ﴿إِنَّما أُنْذِرُكُمْ﴾ أيّها الطغاة على حسب وظيفتي من قبل ربّي ﴿بِالْوَحْيِ﴾ الذي جاءني بتوسّط جبرئيل ، وبالقرآن الذي نزل إليّ ، وليس لي أن آتيكم بما انذركم به من العذاب ، فإنّه بقدرة ربّي ومشيئته ، وأنتم لعدم انتفاعكم بدعوتي وإنذاري كالصّمّ ﴿وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ﴾ ونداء المنادي ﴿إِذا ما يُنْذَرُونَ﴾ وإنّما قيّد الدعاء بوقوعه وقت الإنذار ؛ لأنّ المعتاد في إنذار الأصمّ الإفراط في رفع الصوت وتكريره والإبلاغ في تفهيمه بالإشارة الدالّة عليه ، فإذا لم يسمعوا مع ذلك يكون صممهم إلى حدّ لا وراء له.
ثمّ بيّن سبحانه أن تعجيلهم بالعذاب إنّما هو لجهلهم بشدّته وكيفيّته ، وأنّهم إذا رأوه يعترفون على أنفسهم بالظّلم ويعتذرون من تصاممهم بقوله : ﴿وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ﴾ ووالله إن أصابتهم أدنى مرتبة الاصابة ﴿نَفْحَةٌ﴾ وشيء يسير كالرائحة ﴿مِنْ عَذابِ رَبِّكَ﴾ لتنادوا بالويل والثّبور و﴿لَيَقُولُنَ﴾ تذلّلا وتحسّرا وتندّما واعترافا بفساد عقائدهم وأعمالهم : ﴿يا وَيْلَنا﴾ وهلاكنا ﴿إِنَّا كُنَّا﴾ في الدنيا ﴿ظالِمِينَ﴾ على الله بإثبات الشريك له ، وعلى الرسول بالاستهزاء ، وعلى أنفسنا بتعريضها للهلاك.
﴿وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ
مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ * وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ
وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٧) و (٤٨)﴾
ثمّ بيّن سبحانه كمال العدل في تعذيبهم بقوله : ﴿وَنَضَعُ﴾ وننصب ﴿الْمَوازِينَ الْقِسْطَ﴾ والعدل ﴿لِيَوْمِ الْقِيامَةِ﴾ لوزن العقائد والأعمال بها ، ليعلم النّاس مقدار سيّئاتهم وحسناتهم ، وما يستحقّون من الثواب والعقاب ، وقد مرّ تحقيق المراد من الموازين وما يوزن بها في سورة الأعراف (١)﴿فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ﴾ من النفوس ﴿شَيْئاً﴾ من حقّها ، بل يوفّى حقّ كلّ ذي حقّ إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشرّ ﴿وَإِنْ كانَ﴾ عملها ﴿مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ﴾ ومقدارها في الصغر والحقارة ، أحضرنا ذلك العمل الّذي له وزن حبّة هي أصغر الحبوب و﴿أَتَيْنا بِها﴾ للحساب ، ونضعها في الموازين ﴿وَكَفى بِنا حاسِبِينَ﴾ للأعمال عادلين فيها.
__________________
(١) تقدّم في تفسير الآية ٨ و٩ من سورة الأعراف.