عليهم كلمة العذاب بسبب كمال استحقاقهم له ﴿فَدَمَّرْناها﴾ وأفنينا أهلها ودورها ، ومحونا آثارها بالعذاب ﴿تَدْمِيراً﴾ وفناء عجيبا بديعا.
ثم بيّن سبحانه أنّ عادته من أول الخلقة أخذ المتمردين بالعذاب بقوله : ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنا﴾ وكثيرا ما عذّبنا ﴿مِنَ الْقُرُونِ﴾ والامم المتمرّدة ﴿مِنْ بَعْدِ﴾ عصر ﴿نُوحٍ﴾ وإهلاك امّته بالطّوفان كعاد وثمود وقوم لوط وأضرابهم ، وإنّما خصّ إكثار العذاب بمن بعد نوح ؛ لأنّه أوّل نبي بالغ قومه في تكذيبه.
ثمّ أنّه تعالى بعد إظهار قدرته على التعذيب ، بيّن كمال علمه بالمعاصي الباطنية والظاهرية بقوله : ﴿وَكَفى﴾ يا محمّد ﴿بِرَبِّكَ﴾ اللطيف بك ﴿بِذُنُوبِ عِبادِهِ﴾ الخفية والجلية والباطنية والظاهرية ﴿خَبِيراً بَصِيراً﴾ فيعاقب عليها ، فليحذر مكذّبوك من المشركين وأهل الكتاب من أن يبتلوا بمثل ما ابتلي به الامم الماضية المهلكة بتكذيبهم الرسل.
﴿مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ
يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً * كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ
عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ
دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (١٨) و (٢١)﴾
ثمّ لما هدّد الله الكفار بالعذاب ، وكان كثير منهم متنعّمين في الدنيا مستدلّين بتنعّمهم على كرامتهم على الله ، ردّهم سبحانه بقوله : ﴿مَنْ كانَ يُرِيدُ﴾ النّعم ﴿الْعاجِلَةَ﴾ واللّذات الدنيوية السريعة الزوال بأعماله الحسنة كإعانة الضعفاء وإغاثة الملهوفين ونظائرهما ﴿عَجَّلْنا لَهُ﴾ في إعطاء النعم الدنيوية ، وأسرعنا ﴿فِيها﴾ ولكن لا نعطي الكلّ للكلّ ، بل نعطي ﴿ما نَشاءُ﴾ إعطاءه منها ﴿لِمَنْ نُرِيدُ﴾ أن نعطيه منها ، فلا يفوز كلّهم بكلّ مطالبهم ، بل كثير منهم محرومون عن الدنيا ، فمن فاز منهم بها أخذناها منه سريعا ﴿ثُمَّ جَعَلْنا﴾ بدل النعم التي عجّلناها ﴿لَهُ جَهَنَّمَ﴾ وفنون العذاب الذي فيها.
ثمّ إن كان أشدّ العذاب هو الآلام المقرونة بالذلّ والبعد ، بيّن غاية ذلّ الكافر المتنعّم المتكبّر وبعده بقوله : ﴿يَصْلاها﴾ ذلك المترف المتكبّر ، ويدخلها حال كونه ﴿مَذْمُوماً﴾ ومهانا باللوم و﴿مَدْحُوراً﴾ ومطرودا من ساحة رحمة الله.
ثمّ قيل : إنّ هذه الآية تقرير لقوله : ﴿وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾(١) والمقصود أنّ من يريد
__________________
(١) الإسراء : ١٧ / ١٣.