وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٤٤) و (٥٠)﴾
ثمّ بعد توبيخ أبيه على عبادة الأوثان زجره عنها بقوله : ﴿يا أَبَتِ﴾ إنّ عبادة الأصنام في الحقيقة عبادة الشيطان لكونها بتسويله ، و﴿لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ﴾ ولا تتّبع خطواته وتسويلاته ﴿إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ﴾ في بدو خلقة أبيك آدم ﴿لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا﴾ حيث أمره بالسجود له فأبى واستكبر ، ثمّ أعلن بعداوته لذرّيته ، ومن الواضح أنّ طاعة العاصي مع شدّة عداوته تورث النقم وتزيل النعم.
ثمّ خوّفه مع إظهار المودّة له (١) بقوله : ﴿يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ﴾ إن متّ على ما أنت عليه من عبادة الأصنام من ﴿أَنْ يَمَسَّكَ﴾ ويصيبك ﴿عَذابٌ﴾ عظيم ﴿مِنَ الرَّحْمنِ﴾ مع سعة رحمته ﴿فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ﴾ بسبب طاعتك له ﴿وَلِيًّا﴾ وقرينا في العذاب الدّائم ، أو قريبا يليك وتليه.
فلمّا سمع أبوه منه عليهالسلام هذه النصائح ، غضب وأنكر عليه اعتزاله عبادة الأصنام بقوله : ﴿قالَ أَ راغِبٌ﴾ ومعرض ﴿أَنْتَ عَنْ﴾ عبادة ﴿آلِهَتِي﴾ والأصنام التي أعبدها ﴿يا إِبْراهِيمُ﴾ فإنّ الإعراض عن عبادتها لا ينبغي من عاقل فضلا عن أن يقدم أحد على صرف الغير عنها ، فباللات والعزّى ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ﴾ ولم تنصرف من هذا القول الذي نهيتك عنه وعن إعراضك عن عبادة الأصنام الذي أزجرك عنها ﴿لَأَرْجُمَنَّكَ﴾ ولأقتلنّك برمي الأحجار ، وقيل : يعني لأشتمنّك (٢) ، إذن فاحذرني ﴿وَاهْجُرْنِي﴾ وتباعد منّي ﴿مَلِيًّا﴾ وزمانا طويلا ، لتسلم من بأسي ، ولا تنطق عندي بهذه الخرافات.
فلمّا رأى إبراهيم عليهالسلام شدّة غضب آزر عليه ، وعدم قبوله الهداية والنّصح ﴿قالَ :﴾ يا أبت ﴿سَلامٌ﴾ منّي ﴿عَلَيْكَ﴾ لا اصيبك بمكروه ، ولا اقابلك بما يؤذيك ، بل أحسن إليك في مقابل إساءتك. وقيل : إنّه سلام توديع ومتاركة (٣) ، والمعنى أنا الآن أهجرك وافارقك ، ولكن ﴿سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي﴾ وأسأله أن يوفّقك للهداية وقبول الحقّ ، وأرجو أن يجيب دعائي ﴿إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا﴾ ولطيفا في الغاية وبليغا في البرّ والعناية ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ﴾ وأتباعد عنكم يا عبدة الأصنام لمّا لا تقبلون نصحي ولا تهتدون بقولي ﴿وَ﴾ أعتزل ﴿ما تَدْعُونَ﴾ وتعبدون ﴿مِنْ دُونِ اللهِ﴾ وممّا سواه ﴿وَأَدْعُوا رَبِّي﴾ وحده وأعبده ﴿عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي﴾ اللّطيف بي ﴿شَقِيًّا﴾ وخائبا ، كما أنتم أشقياء خائبون في دعائكم الأصنام ، وفي إظهار الرجاء باستجابة دعائه إظهار للتّواضع والأدب ، وأنّ الاجابة بالتفضّل والكرم لا بالاستحقاق.
﴿فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ﴾ وفارقهم في المكان بعد اليأس من اجتماعهم معه في الدين وتركهم ﴿وَما
__________________
(١) في النسخة : به.
(٢) تفسير الرازي ٢١ : ٢٢٨ ، تفسير روح البيان ٥ : ٣٣٧.
(٣) جوامع الجامع : ٢٧٥ ، تفسير الرازي ٢١ : ٢٢٨ ، تفسير روح البيان ٥ : ٣٣٧.