ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية شدّة بلائهم بعد عصيانهم ، وحسن حالهم بعد توبتهم وإنابتهم ، نبّه على أن نفع الإيمان والطاعة عائد إليهم ، وضرر الكفر والعصيان وارد عليهم لا يتعدّاهم بقوله : ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ﴾ يا بني إسرائيل في العقائد والأعمال ، فقد تبيّن لكم أنّكم ﴿أَحْسَنْتُمْ﴾ وحصّلتم الخير والثواب الدنيوي والاخروي ﴿لِأَنْفُسِكُمْ﴾ واستفتحتم أبواب البركات على ذواتكم ﴿وَإِنْ أَسَأْتُمْ﴾ بالكفر والطّغيان ﴿فَلَها﴾ ضررها من الذّلّ والشدّة في الدنيا والعذاب في الآخرة ، وفي ذكر فعل الاحسان مرتين دون الاساءة ، إشارة بغلبة رحمته تعالى على غضبه ﴿فَإِذا جاءَ وَعْدُ﴾ العقوبة على المرّة ﴿الْآخِرَةِ﴾ من طغيانكم كقتل يحيى وزكريا والاجتماع لقتل عيسى ، بعثنا عليكم جمعا آخر ﴿لِيَسُوؤُا﴾ ويغيّروا ﴿وُجُوهَكُمْ﴾ من شدّة الحزن والكآبة فتسودّ أو تتغيّر ﴿وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ﴾ الأقصى ويخرّبوه ﴿كَما﴾ أنّ أعداءكم ﴿دَخَلُوهُ﴾ وخرّبوه ﴿أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ عقوبة على طغيانكم الأول ﴿وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا﴾ واستولوا عليه من النفوس والأموال ﴿تَتْبِيراً﴾ وإهلاكا فظيعا لا يوصف.
قيل : إنّ الذين بعثهم الله لعقوبة بني إسرائيل ططوس النصراني (١) ، حاصر بلادهم ، وقتل نفوسهم ، ونهب أموالهم ، وخرّب بيت المقدس (٢) .
وقيل : إنّ هردوس ملك بابل غزا بني إسرائيل ، وقال لرئيس جنده : كنت حلفت بالهي لأن ظفرت بأهل بيت المقدس لأقتلنّهم حتى تسيل دماؤهم وسط عسكري ، فاقتلهم أنت. فدخل بيت المقدس ، وقام في البقعة التي كانوا يقرّبون فيها القربان ، فوجد فيها دما يغلي فسألهم عنه فقالوا : دم قربان لم يقبل منّا. فقال : ما صدقتموني. فقتل على ذلك الدم سبعين ألفا من رؤسائهم وعلمائهم (٣) وأزواجهم ، فلم يسكن الدم.
ثمّ قال : إن لم تصدقوني ما تركت منكم أحدا. فقالوا : إنّه دم نبي [ كان ] ينهانا عن المعاصي ، ويخبرنا بأمركم ، فلم نصدّقه فقتلناه ، فهذا دمه. فقال : ما كان اسمه ؟ قالوا : يحيى بن زكريا. قال : الآن صدقتموني ، لمثل هذا ينتقم ربّكم منكم.
وكان قتل يحيى بيد ملك من بني إسرائيل يقال له لاحت (٤) حمله على قتله امرأة اسمها إربيل ، وكانت قتلت سبعة من الأنبياء ، وقتل يحيى كان بعد رفع عيسى ، فلمّا رأى أنهم صدقوا خرّ ساجدا ، ثمّ قال : يا يحيى ، قد علم ربّي وربّك ما أصاب قومك من أجلك وما قتل منهم ، فاهدأ باذن الله قبل أن لا أبقي أحدا منهم ، فهدأ فرفع عنهم القتل ، وقال : آمنت بما آمنت به بنو إسرائيل ، وأيقنت أنه لا ربّ
__________________
(١) في روح البيان : طرطوس الرومي.
(٢) تفسير روح البيان : ٥ : ١٣٣.
(٣) في تفسير روح البيان : وغلمانهم.
(٤) في تفسير روح البيان : لاخت.