كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قالُوا أَ جِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ
اللاَّعِبِينَ * قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى
ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ *
فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥١) و (٥٨)﴾
ثمّ بيّن سبحانه عظم شأن إبراهيم عليهالسلام ورسالته وكيفيّة دعوته بقوله : ﴿وَلَقَدْ آتَيْنا﴾ وأعطينا ﴿إِبْراهِيمَ﴾ الخليل ﴿رُشْدَهُ﴾ وهدايته إلى الحقّ ومصالح الدين والدنيا ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ وفي العصر السابق على عصر موسى عليهالسلام ، كما عن ابن عباس (١) . أو في عالم الذرّ حين أخذنا ميثاق النبيّين ، كما عنه أيضا (٢)﴿وَكُنَّا بِهِ﴾ وبأهليّته لذلك العطاء ﴿عالِمِينَ﴾ واذكر يا محمّد ﴿إِذْ قالَ﴾ حسب وظيفة الرسالة ﴿لِأَبِيهِ﴾ آزر ﴿وَقَوْمِهِ﴾ قيل : هم أهل بابل (٣) : ﴿ما هذِهِ التَّماثِيلُ﴾ والصّور المجسّمة ﴿الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ﴾ وإلى عبادتها مقبلون ، ولخدمتها ملتزمون ؟
﴿قالُوا﴾ في وجوابه : إنّا ﴿وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ﴾ ونحن لهم مقلّدون ، وبهم مقتدون.
﴿قالَ﴾ إبراهيم عليهالسلام : بالله ﴿لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ﴾ أيّها المقلّدون ﴿وَآباؤُكُمْ﴾ الّذين اقتديتم بهم ﴿فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ وخطأ ظاهر عظيم لا يخفى على ذي شعور ﴿قالُوا﴾ تعجّبا واستبعادا منه لمخالفته أهل بلده : ﴿أَ جِئْتَنا بِالْحَقِ﴾ وكلام صدق وعن جدّ ﴿أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ﴾ والهازلين بهذا القول المخالف للأكثرين ومن المازحين معنا ؟ ﴿قالَ﴾ إبراهيم : لست من اللاعبين والمازحين ﴿بَلْ﴾ أقول عن جدّ وحقيقة : ﴿رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَ﴾ وخلقهنّ بقدرته وحكمته بلا مثال سابق ، أو الذي خلق التماثيل ﴿وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ﴾ الذي ذكرته من كون الربّ والإله ربّ جميع الموجودات وحده دون التماثيل وغيرها ﴿مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ والعالمين به بالبراهين.
قيل : إنّ قومه كان لهم عيد يخرجون فيه من البلد إلى الصحراء للطّرب والبطر ، ثمّ يعودون إلى بيوت أصنامهم ويزيّنونها ويعبدونها ، فلمّا ناظر إبراهيم عليهالسلام بعضهم قالوا : غدا يوم العيد فاخرج معنا وانظر محاسن ديننا ، فسكت إبراهيم عليهالسلام ، فلمّا كان الغد جاءوا إليه وسألوه الخروج معهم ، فاعتلّ وتمارض وقال : ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾ يعني عن عبادة الأصنام (٤) ، فلمّا ذهبوا قال إبراهيم في نفسه : ﴿وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ﴾ واحتالنّ واجتهدنّ في كسرها ، أو لأحتالنّ بكم في كسرها ﴿بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا﴾ وترجعوا ﴿مُدْبِرِينَ﴾ وذاهبين من بيوتها إلى عيدكم.
__________________
(١ و٢) تفسير الرازي ٢٢ : ١٨٠.
(٣) تفسير روح البيان ٥ : ٤٩٠.
(٤) تفسير روح البيان ٥ : ٤٩٢.