ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر رحمته ونعمته على المؤمنين ، بيّن أنّ الرسول الذي أرسله إليهم أفضل النّعم عليهم وعلى جميع الخلق بقوله : ﴿وَما أَرْسَلْناكَ﴾ يا محمّد لغرض من الأغراض ﴿إِلَّا﴾ لتكون ﴿رَحْمَةً﴾ ونعمة عظيمة ﴿لِلْعالَمِينَ﴾ وسببا لسعادة الدّارين للخلق أجمعين.
عن أبي هريرة : قيل رسول الله صلىاللهعليهوآله ادع على المشركين. قال : « إنّما بعثت رحمة ، ولم ابعث عذابا » (١) .
وعنه صلىاللهعليهوآله أنّه قال لجبرئيل لمّا نزلت هذه الآية : « هل أصابك من هذه الرحمة شيء ؟ » قال : نعم ، إنّي كنت أخشى عاقبة الأمر ، فآمنت بك لمّا أثنى الله عليّ بقوله : ﴿ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ﴾(٢) .
وعن أمير المؤمنين عليهالسلام في حديث مجيبا لبعض الزنادقة : « وأمّا قوله لنبيّه صلىاللهعليهوآله ﴿وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ﴾ وأنّك ترى أهل الملل المخالفة للإيمان ومن يجري مجراهم من الكفّار مقيمين على كفرهم إلى هذه الغاية ، وأنّه لو كان رحمة عليهم لاهتدوا جميعا ونجوا من عذاب السّعير ، فإنّ الله تبارك وتعالى إنّما عنى بذلك أنّه جعله سبيلا لإنذار أهل هذه الدار ؛ لأنّ الأنبياء قبله بعثوا بالتّصريح لا بالتّعريض ، وكان النبيّ منهم إذا صدع بأمر الله وأجابه قومه سلموا وسلم أهل دارهم من سائر الخليقة ، وإن خالفوا هلكوا وهلك أهل دارهم بالآفة التي كان نبيهم يتوعّد بها ويخوّفهم حلولها ونزولها بساحتهم من خسف أو قذف أو رجف أو ريح أو زلزلة أو غير ذلك من أصناف العذاب التي هلكت بها الامم الخالية.
وإنّ الله علم من نبيّنا صلىاللهعليهوآله ومن الحجج في الأرض الصبر على ما لم يطق من تقدّمهم من الأنبياء الصبر على مثله ، فبعثه الله بالتعريض لا بالتصريح ، وأثبت حجّة الله تعريضا لا تصريحا بقوله في وصيّة : من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه ، وهو منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي.
وليس من خليقة النبيّ صلىاللهعليهوآله ولا شيمته أن يقول قولا لا معنى له ، فلزم الامّة أن تعلم أنّه لمّا كانت النبوّة والأخوّة موجودتين في خلقة هارون ومعدومتين في من جعله النبيّ صلىاللهعليهوآله بمنزلته أنّه قد استخلفه على امّته كما استخلف موسى هارون حيث قال له : ﴿اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي﴾(٣) ولو قال : لا تقلّدوا الإمامة إلّا فلانا بعدي وإلّا نزل بكم العذاب لأتاهم العذاب وزال باب الإنظار والإمهال » (٤) .
وعن الباقر عليهالسلام : « أما لو قام قائمنا ردّت إليه الحميراء (٥) حتى يجلدها الحدّ وحتى ينتقم لابنة محمّد فاطمة منها » . قيل : لم يجلدها ؟ قال : « لفريتها على امّ إبراهيم » ، قيل : فكيف أخّره الله للقائم ؟ قال : « إنّ
__________________
(١) تفسير الرازي ٢٢ : ٢٣١.
(٢) تفسير روح البيان ٥ : ٥٢٧ ، الآية من سورة التكوير : ٨١ / ٢٠.
(٣) الأعراف : ٧ / ١٤٢.
(٤) الاحتجاج : ٢٥٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٥٨.
(٥) في النسخة : ردّت بالحميراء.