جارية حديثة السنّ ما أقرأ من القرآن كثيرا : إنّي والله لقد عرفت أنّكم قد سمعتم بهذا حتى استقرّ في نفوسكم وصدّقتم به ، فان قلت لكم إنّي بريئة لا تصدّقوني ، وإن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني بريئة تصدّقوني ، والله لا أجد لي ولكم مثلا إلّا كما قال العبد الصالح أبو يوسف ولم أذكر أسمه : ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ﴾(١) .
ثمّ تحولت واضطجعت على فراشي وأنا والله أعلم أنّ الله تعالى يبرّئني ، ولكن والله ما كنت أظنّ أن ينزل في شأني وحي يتلى ، فشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلّم الله فيّ بأمر يتلى ، ولكن كنت ارجو أن يرى الرسول في النوم رؤيا يبرّئني الله بها. فو الله ما قام رسول الله من مجلسه ولا خرج من أهل البيت أحد حتى أنزل الله الوحي على نبيّه ، فأخذه ما كان يأخذه عند نزول الوحي حتى إنّه لينحدر عنه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل الوحي ، فسجّي بثوب ووضعت وسادة تحت رأسه ، فو الله ما فرغت وما باليت لعلمي ببراءتي ، وأما أبواي فو الله ما سرّي عن رسول الله صلىاللهعليهوآله حتى ظننت أنّ نفسي أبوي ستخرجان فرقا من أن يأتي الله بتحقيق ما قال الناس ، فسرّي عنه وهو يضحك ، فكان أول كلمة تكلّم بها أن قال : « ابشري يا عائشة ، أما والله لقد برّأك الله » . فقلت : بحمد الله لا بحمدك ولا بحمد أصحابك. فقالت امّي : قومي إليه. فقلت : والله لا أقوم إليه ، ولا أحمد أحدا إلّا الله الذي أنزل براءتي ، فأنزل الله تعالى : ﴿إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ﴾ العشر آيات.
فقال أبو بكر : والله لا انفق على مسطح بعد هذا ، وكان ينفق عليه لقرابته منه وفقره ، إلى أن قالت : فلمّا نزل عذري قام رسول الله صلىاللهعليهوآله على المنبر ، فذكر ذلك ، وتلا القرآن ، فلمّا نزل ضرب عبد الله بن ابي ومسطحا وحمنة وحسان الحدّ (٢) .
أقول : في هذه الرواية التي وضعتها لاثبات شرفها بأن أوحى الله في شأنها آيات تتلى إلى يوم القيامة ، دلالة على كونها سببا لايذاء النبيّ صلىاللهعليهوآله وجسارتها عليه ، وإثارة الفتنة ، وعلى عدم اطمئنان أبويها بعفّتها ، وعدم تعقّلها وتعقّل أبويها وجوب عصمة زوجات النبي صلىاللهعليهوآله من الفحش ، لكونه من أعظم الشّين عليه ، وعلى كون صلحاء أصحاب النبيّ صلىاللهعليهوآله الذين أهل العصبية والحمية الجاهلية ، وعلى كون بعض البدريين من أفسق الفسّاق ، إلى غير ذلك ممّا فيه دلالة على فساد اعتقاد العامة في حقّها وحقّ أصحاب النبي رووا في شأنهم أنّهم كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم.
وقال القمي رحمهالله : روت العامة أنّها نزلت في عائشة وما رميت به في غزوة بني المصطلق من خزاعة،
__________________
(١) يوسف : ١٢ / ١٨.
(٢) تفسير الرازي ٢٣ : ١٧٤.