﴿أَ فَرَأَيْتُمْ﴾ قيل : إنّ التقدير أنظرتم فأبصرتم ، أو تأملتم فعلمتم (١)﴿ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ* أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ﴾ وكبراؤكم السابقون حقّ الإبصار ، أو حقيقة العلم بأن الباطل لا يصير حقّا بكثرة قائليه وقدم عامليه ، لا والله لم تنظروا ولم تقفوا على حال أصنامكم ﴿فَإِنَّهُمْ﴾ لكثرة ضررهم كأنّهم ﴿عَدُوٌّ لِي﴾ في الدنيا ، أو في الآخرة بعد إحيائهم ، أو عابدهم عدوّ لي ، وفيه تعريض على كونه عدوّ لعبدتهم ، وإظهارا لنصحهم بصورة نصح نفسه ليكون أقرب إلى القبول.
ثمّ نبّههم على حصر النفع في عبادة الله بقوله : ﴿إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ﴾ والتقدير : أنّ جميع الآلهة الذين كانوا يعبدونهم عدوّ إلّا رب العالمين فانّه كان في آبائهم من يعبده ، أو التقدير : لا وليّ لي إلّا ربّ العالمين.
وقيل : إنّ الاستثناء منقطع ، والمعنى : ولكن ربّ العالمين وليي وحبيبي في الدنيا والآخرة لا يزال يتفضّل عليّ بمنافعهما (٢) التي يجب أن يكون المعبود واجدا لها ، بقوله : ﴿الَّذِي خَلَقَنِي﴾ وأخرجني من كتم العدم إلى الوجود الذي هو أعظم النّعم ﴿فَهُوَ يَهْدِينِ﴾ ويرشدني إلى معرفته ، وطريق تحصيل مرضاته ، وصلاح الدارين من بدو الخلق إلى زهوق الرّوح ، ممّا ينتظم به المعاش والمعاد ، فانّه (٣) يهدي في البدو إلى امتصاص دم الحيض ، وعند الكمال إلى الحقّ ، وفي الآخرة إلى الجنّة.
وقيل : يعني خلقني لاقامة الحقّ ، ويهديني إلى دعوة الخلق ، أو خلقني للطاعة ، ويهديني إلى الجنّة (٤) ، وإنّما اختلف الفعلان بالماضوية والمضارعية لتقدّم الخلق واستمرار الهداية.
﴿وَالَّذِي هُوَ﴾ وحده بعد الخلق ﴿يُطْعِمُنِي﴾ نعمه لتقوية أجزاء بدني ﴿وَيَسْقِينِ﴾ الشراب لتربية أعضاء جسدي بخلق المطعوم والمشروب والتسليط عليهما ، وإيجاد جميع مقدّمات الانتفاع بهما كالشهوة وقوّة المضغ والابتلاع والهضم والدفع وغير ذلك ، وإنّما كرّر الموصول للدلالة على استقلال كلّ واحد من الصلات في استحقاق العبادة وإيجابها ﴿وَإِذا مَرِضْتُ﴾ من التفريط في المطاعم والمشارب ، وفساد الأخلاط ، أو اقتضاء الحكمة ﴿فَهُوَ﴾ بلطفه ﴿يَشْفِينِ﴾ ويبرئني من المرض ، وإنّما أضاف المرض إلى نفسه مع كونه من الله لرعاية الأدب ، أو لكونه بصدد ذكر النّعم ، ولا ينتقض بذكر الموت ، فانّه نعمة من حيث إنّه سبب للتخلّص من آفات الدنيا وشدائدها ، والخلاص من المضيقة وقفص الجسد ، والدخول في فسحة عالم الآخرة ، والنيل بالمحابّ التي تستحقر دونها
__________________
(١) تفسير أبي السعود ٦ : ٢٤٨ ، تفسير روح البيان ٦ : ٢٨٢.
(٢) تفسير أبي السعود ٦ : ٢٤٨ ، تفسير روح البيان ٦ : ٨٢ ، وفي النسخة : منافعه.
(٣) في النسخة : فاية.
(٤) مجمع البيان ٧ : ٣٠٣.