بصورة البشر فرأته ﴿بَشَراً﴾ شابّا أمرد حسن الوجه ﴿سَوِيًّا﴾ ومعتدلا في الخلقة والقامة.
وقيل : كان لها في منزل زكريّا محراب مخصوص تسكنه ، وكان إذا خرج أغلق عليها بابه ، فتمنّت أن تتّخذ خلوة في الجبل لتفلّي (١) رأسها ، فانفرج (٢) السقف فخرجت إلى المفازة ، فجلست في المشرفة. وراء الجبل ، فأتاها الملك (٣) في صورة شاب أمرد وضيء الوجه جعد الشّعر.
وقيل : إنّه ظهر لها في صورة يوسف أحد خدّام بيت المقدس (٤) ، فلمّا رأته ﴿قالَتْ﴾ تعفّفا وتورّعا : يا شابّ ﴿إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ﴾ وألتجأ إليه برحمته الواسعة ﴿مِنْكَ﴾ ومن سوء قصدك وصنيعك ﴿إِنْ كُنْتَ﴾ مؤمنا ﴿تَقِيًّا﴾ تبالي بالاستعاذة بالرحمن ، فلا تتعرّض لي واتّعظ بتعويذي ﴿قالَ﴾ جبرئيل : لا تخافي (٥) منّي ولا تتوهّمي (٦) السّوء في حقّي ﴿إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ﴾ الذي استعذت به جئتك ﴿لِأَهَبَ لَكِ﴾ وأعطيك بالنّفخ في روعك ﴿غُلاماً زَكِيًّا﴾ طاهرا من كلّ لوث ودنس ، ومبرّءا من كلّ نقص وشين ، فلمّا سمعت ذلك ﴿قالَتْ﴾ تعجّبا من وقوع الأمر الخارق للعادة ، لا استبعادا من قدرة الله : ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي﴾ وكيف يتولّد منّي ﴿غُلامٌ وَ﴾ الحال أنّه ﴿لَمْ يَمْسَسْنِي﴾ ولم يباشرني ﴿بَشَرٌ﴾ بالنّكاح ﴿لَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾ وفاجرة ! ﴿قالَ﴾ جبرئيل : ﴿كَذلِكِ﴾ الذي قلت ﴿قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ.﴾ قد مرّت الوجوه في ﴿كَذلِكِ﴾ وما بعده.
ثمّ ذكر سبحانه علّة خرق العادة بوهب الغلام بغير فحل بقوله : ﴿وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً﴾ وبرهانا قاطعا للنّاس على قدرتنا ورسالة هذا الغلام.
قيل : إنّ التقدير لنبيّن به قدرتنا (٧)﴿لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً﴾ عظيمة ﴿مِنَّا﴾ عليهم ، هداية لهم بهدايته ﴿وَكانَ﴾ ذلك الخلق العجيب ﴿أَمْراً مَقْضِيًّا﴾ ومقدّرا في علمي السابق لا بدّ من وقوعه.
ثمّ قيل : إنّ جبرئيل نفخ في جيبها (٨) ، أو ذيلها (٩) ، أو أخذ بكمّها ونفخ في درعها (١٠) .
عن ابن عباس : فاطمأنّت مريم إلى قول جبرئيل ، فدنا منها فنفخ في جيب درعها (١١)﴿فَحَمَلَتْهُ﴾ عقيب نفخ جبرئيل.
عن الباقر عليهالسلام : « إنّه تناول جيب درعها (١٢) فنفخ فيه نفخة ، فكمل الولد في الرّحم في ساعته ، كما يكمل في أرحام النساء في تسعة أشهر ، فخرجت من المستحمّ وهي حامل فحجج (١٣) مثقل ، فنظرت
__________________
(١) في النسخة : لتضل. (٢) في النسخة : فانفجر.
(٣) تفسير الرازي ٢١ : ١٩٦. (٤) تفسير الرازي ٢١ : ١٩٦.
(٥) في النسخة : تخف. (٦) في النسخة : ولا تتوهم.
(٧) تفسير أبي السعود ٥ : ٢٦١.
( ٨ و٩ و١٠ ) تفسير الرازي ٢١ : ٢٠١.
(١١) تفسير روح البيان ٥ : ٣٢٤.
(١٢) في مجمع البيان : مدرعتها.
(١٣) كذا ، وفي مجمع البيان : محج ، وفي الصافي : محج ، ولعلها تصحيف : تفحج ، أي تباعد بين رجليها ، كما هو شأن - النساء المثقلات بالحمل.