فرق واضح لا يخفى على ذي مسكة (١) ، فإنّ النبيّ المؤسس لا يجوز له التقيّة ، لأنّ تقيّته موجبة لاختلال الغرض من بعثته ، ولذا يجب على الله حفظه حتى يتمّ رسالته وتبليغه ولو بالأسباب الخارقة للعادة ، كما حفظ نوح من القتل مع تفرّده وعداوة أهل الأرض له ، وإبراهيم من نار نمرود وجعلها له بردا وسلاما ، وحفظه نبيّنا من شرّ الكفّار مع انفراده في أوّل الدعوة ، لئلّا يكون للنّاس على الله حجّة بعد الرّسل ، فأمره الله بالتّبليغ بقوله : ﴿فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾(٢) وآمنه بقوله : ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ﴾(٣) و﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا﴾(٤) و﴿وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾(٥) فكان ينادي بين الأشرار مع غاية تعصّبهم ولجاجهم وعنادهم بقوله : « قولوا لا إله إلّا الله تفلحوا » ولم يقدروا على قتله ، ونصره الله بالرّعب وبجنود من الملائكة ، والرّيح ، وبمن اتّبعه من المؤمنين.
وأمّا الإمام فوظيفته وظيفة العلماء ، وهي حفظ الدين ، وتعليم الأحكام الواقعيّة عن علم لا خطأ فيه ، وإجراء السياسات الشرعيّة ، وتربية النفوس القابلة ، ورفع الاختلاف بين الناس ، وكونه مرجعا في جميع المنازعات بعد إتمام الحجّة على النّاس بتبليغ الدين ، ونصبه على رؤوس الأشهاد ، بحيث لا يبقى لأحد عذر في عدم معرفته ، كما نصب موسى هارون عليهماالسلام ، ونبيّنا عليّا عليهالسلام يوم الغدير ، فمن حيث إنّ هارون كان شريكا لموسى عليهالسلام في الرسالة لم يجز له التقيّة ، ومن حيث أنّه كان خليفته في غيبته جاز له التقيّة ، ولذا أعلن بالحقّ ، ولكن لم يشدّد على بني إسرائيل كما شدّد موسى عليهالسلام عليهم بعد رجوعه من الميقات ، واعتذر إلى موسى عليهالسلام من تركه التشدّد وعمله بالتقيّة بقوله : ﴿إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي﴾ فظهر أنّ هارون اتّقى من قومه حيث لم يقاتلهم على عباده العجل ، ولم يخرج من بينهم ، مع أنّه كان أنصاره اثني عشر ألفا ، كما أنّ عليّا عليهالسلام أظهر خلافته عن رسول الله صلىاللهعليهوآله في محافل كثيرة ، واحتجّ على إمامته بالحجج القاطعة ، مع أنّه لم يكن له ناصر إلّا ثلاثة أو خمسة أو سبعة (٦) ، ولذا لم يقاتلهم على عبادتهم عجل هذه الامّة ، ولو كان معه أربعون لقاتلهم وردّهم عن ضلالتهم(٧).
وأمّا قوله : إنّ هارون صعد على المنبر وأظهر الحقّ ، فهو تخرّص بالغيب ، لعدم دلالة آية أو رواية على صعوده على المنبر ، مع أنّ عجل بني إسرائيل لم يشغل المنبر ، ولذا تمكّن هارون من الصعود عليه ، وأمّا عجل هذه الامّة فإنّه كان جالسا على منبر الرسول صلىاللهعليهوآله وشاغلا له ، ولذا لم يتمكّن
__________________
(١) المسكة : العقل الوافر والرأي.
(٢) الحجر : ١٥ / ٩٤.
(٣) البقرة : ٢ / ١٣٧.
(٤) غافر : ٤٠ / ٥١.
(٥) المائدة : ٥ / ٦٧.
(٦) راجع : تفسير العياشي ١ : ٣٤١ / ٧٨٧ و٧٨٨ ، الكافي ٨ : ٢٤٥ / ٢٤١ ، رجال الكشي : ٦ / ١٢ و: ٨ / ١٧ و: ١١ / ٢٤.
(٧) الاحتجاج : ١٩١ ، كتاب سليم بن قيس : ٩٣.