و (مُضْغَةً) قطعة لحم كأنّه ممضّغ (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) جعلناها صلبة قوية (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) أي من بقايا المضغة ، أو لحما جديدا فخلقنا في اللحم عروقا وأعصابا وأوتارا وعضلات. قيل ان اختلاف العواطف وليد التحوّلات في مقام الخليقة وليس ببعيد لأن تلك التحوّلات لا بد أن تكون لمصلحة ، وإلّا فهو تعالى قادر على خلق البشر بلا احتياج الى هذه الاستحالات (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) اي نفخنا فيه من روحنا فصار إنسانا كاملا ناطقا سميعا بصيرا (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) وليعلم أن المخلوقين على ثلاثة أقسام : إمّا روحاني محض وهو الملك فانه نور بحت ومنزّه عن صفة الشهوة والغضب وغيرهما من الصّفات التي تلازم الجسميّة. وإمّا جسماني محض كالنّباتات والمعدنيّات. وإما مركب من الجسماني والروحاني وهو على قسمين : إما الغالب فيه هو الروحانية فهو الجنّ وإمّا العكس فهو الإنس. والحاصل أن الله تعالى بقدرته الكاملة بلّغ الإنسان بعد تكميله المراتب السبع إلى حدّ الانسانية ، وأول المراتب كونه سلالة والثاني النطفة والثالث العلقة والرابع المضغة والخامس العظام والسادس اللحم. وهذه الست مربوطة بعالم تكامل الجسد ، والسابع إيلاج الروح وفي هذه المرتبة قال سبحانه (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) لأن بين عالم الرّوح والجسد بلا روح بونا بعيدا بل تباينا ، فأين التراب وربّ الأرباب وأين الثرى والثرّيا ولذا كان التركيب بين الروح والجسد من أعجب العجائب وأغرب الغرائب فإن الروح علوي نوراني ، والجسد سفليّ ظلماني. والروح أمر لطيف والجسد شيء كثيف والروح يدرك الأمور المعنوية ويتلذذ بها والجسم لا يدرك غير المحسوسات ويتلذذ بالشهوات إلخ ... فالتركيب بينهما قريب بالمجال فهو تعالى أظهر في هذا الهيكل قدرته الكاملة وحكمته الباهرة والدليل على عظم خلق الإنسان واهتمامه تعالى بشأنه أنه ما أثنى على نفسه في خلق العرش والكرسي واللوح والقلم والملائكة والسماوات بما فيها من الكواكب والعجائب والأرضين وما فيها من مظاهر القدرة والعظمة بمثل ما مدح واثنى على ذاته المقدسة في خلق