بصرف جزء منها إلى الفقراء ، فالذي حصل به الامتياز بين الآيتين أنه هناك أمر بالاستدلال بها على الصانع الحكيم وهاهنا أذن في الانتفاع بها ، وذلك تنبيه على أن الأمر بالاستدلال على الصانع الحكيم مقدم على الأذن في الانتفاع بها ؛ لأن الحاصل من الاستدلال بها سعادة روحانية أبدية ، والحاصل من الانتفاع بهذه سعادة جسمانية سريعة الانقضاء ، والأول أولى بالتقديم ؛ فلهذا السبب قدم الله تعالى الأمر بالاستدلال بها على الأذن بالانتفاع بها.
(المسألة الثانية) :
قوله : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ) [الأنعام : الآية ١٤١]. أي خلق ، يقال نشأ الشيء ينشأ نشأة ونشاءة إذا ظهر وارتفع ، والله ينشئه إنشاء أي يظهره ويرفعه ، وقوله : (جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ) [الأنعام : الآية ١٤١]. يقال عرشت الكرم أعرشه عرشا وعرشته تعريشا إذا عطفت العيدان التي ترسل عليها قضبان الكرم واحدة عرش والجمع عروش ويقال عريش وجمعه عرش ، واعترش العنب العريش اعتراشا إذا علاه ، إذا عرفت هذا فنقول في قوله : (مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ) [الأنعام : الآية ١٤١]. أقوال :
(الأول) : أن المعروشات وغير المعروشات كلاهما الكرم فإن بعض الأعناب يعرش وبعضها لا يعرش بل يبقى على وجه الأرض منبسطا.
(الثاني) : المعروشات العنب الذي يجعل له عروش وغير المعروشات كل ما ينبت منبسطا على وجه الأرض مثل القرع والبطيخ وغير ذلك.
(الثالث) : المعروشات ما يحتاج إلى أن يتخذ له عريش يحمل عليه فيمسكه وهو الكرم مما يجري مجراه ، وغير المعروش هو القائم من الشجر المستغني باستوائه وذهابه علوا بقوة ساقه عن التعريش.
(الرابع) : المعروشات ما يحصل في البساتين والعمرنات مما غرسه الناس واهتموا به فعرشوه ، وغير معروشات مما أنبته الله تعالى وحشيا في البراري والجبال فهو غير معروش قوله : (وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ) [الأنعام : الآية ١٤١]. فسر ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ الزرع هاهنا بجميع الحبوب التي يقتات بها (مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ) [الأنعام : الآية ١٤١]. أي لكل شيء منها طعم مخصوص غير طعم الآخر كما قدمنا ، وقوله : (مُخْتَلِفاً) [الأنعام : الآية ١٤١]. نصب على الحال أي أنشأه في حال اختلاف أكله ، وهو قد أنشأه من قبل ظهور أكله ، وأكل ثمره فالجواب أنه تعالى أنشأها حال اختلاف ثمرها وصدق هذا لا ينافي صدق أنه تعالى أنشأه قبل ذلك أيضا إنما نصب على الحال مع أنه يؤكل بعد ذلك بزمان ؛ لأن اختلاف أكله مقدر