وجه الاستدلال به أن التقطيب لا يكون إلا من الشديد ؛ ولأن المزج بالماء كان لقطع الشدة بالنص ؛ ولأن اغتلام الشراب سكرة كما اغتلام البعير شدته.
(الوجه الثالث) : التمسك بآثار الصحابة ، والجواب عن الأول أن قوله تعالى : (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) [النّحل : الآية ٦٧]. نكرة في الإثبات فلم قلتم : إن ذلك السكر والرزق الحسن هو هذا النبيذ ، وقد أجمع المفسرون على أن تلك الآية نزلت قبل هذه الآيات الثلاث الدالة على تحريم الخمر فكانت هذه الثلاثة ؛ إما ناسخة ، وإما مخصصة لها.
وأما الحديث فلعل ذلك النبيذ كان ماء نبذت تمرات فيه لتذهب الملوحة فتغير طعم الماء قليلا إلى الحموضة وطبعه ـ عليهالسلام ـ في غاية اللطافة فلم يحتمل طبعه الكريم ذلك الطعم ؛ فلذلك قطب وجهه ، وأيضا كان المراد بصب الماء فيه إزالة ذلك القدر من الحموضة أو الرائحة ، وبالجملة فكل عاقل يعلم أن الأعراض عن تلك الدلائل التي ذكرناها بهذا القدر من الاستدلال الضعيف غير جائز.
وأما آثار الصحابة فهي متدافعة متعارضة فوجب تركها والرجوع إلى ظاهر كتاب الله وسنة الرسول صلىاللهعليهوسلم فهذا تمام الكلام في حقيقة الخمر ، قرأ حمزة والكسائي كثير بالثاء المنقوطة من فوق ، والباقون بالباء المنقوطة من تحت ، حجة حمزة والكسائي أن الله تعالى وصف أنواعا كثيرة من الإثم في الخمر والميسر ، وهو قوله : فذكر أعدادا من الذنوب فيهما ، ولأن النبي صلىاللهعليهوسلم لعن عشرة بسبب الخمر ، وذلك يدل على كثرة الإثم فيهما ؛ ولأن الإثم في هذه الآية كالمضاد للمنافع ؛ لأنه قال : (فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ) [البقرة : الآية ٢١٩]. فكما أن المنافع أعداد كثيرة فهكذا الإثم فصار التقدير كأنه قال فيهما مضار كثيرة ومنافع كثيرة.
وحجة الباقين أن المبالغة في تعظيم الذنب إنما تكون بالكبر لا بكونه كثيرا يدل عليه قوله تعالى : (كَبائِرَ الْإِثْمِ) [الشّورى : الآية ٣٧]. و (كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) (إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً).
(المسألة السادسة في حقيقة الميسر):
اعلم أن الميسر مصدر من يسر كالموعد ، والمرجع من فعلهما يقال : يسرته إذا قمرته. واختلفوا في اشتقاقه على وجوه :
(أحدها) : قال مقاتل : اشتقاقه من اليسر ؛ لأنه أخذ مال الرجل بيسر وسهولة من غير كد ولا تعب كانوا يقولون : يسروا لنا ثمن الجزور. أو من اليسار ؛ لأنه مسبب ليساره ، وعن ابن عباس كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله وماله.