الْأَرْضَ مَهْداً) [طه : الآية ٥٣].
واعلم أن كون الأرض فراشا مشروط بشروط ، وهي متضمنة لدلائل :
(الدليل الأول) : في كونها متحركة ؛ وذلك لأنها لو كانت ساكنة لما كانت فراشا لنا على الإطلاق ؛ لأن الأرض لو كانت ساكنة لانحلت منها قوة التماسك ، وفسد تركيب الجزئيات التي لا تتجزأ ، والدليل على ذلك أنه ينتج من انعزال الأرض في الفراغ قاعدة ؛ وهي أن جميع الأجسام تميل إلى الانجذاب نحو مركز الأرض ؛ إذ لا شيء ينفصل من كرة أرضنا ويضيع في الفراغ ، فالأجسام التي تقذف بعيدا عن سطحها تعود إليه بسرعة دائما ، وهذا الميل هو المعبر عنه بالثقل أو الجذب الأرضي فجعل تعالى خاصية الأرض أن تجذب نحو مركزها جميع الأجزاء المادية التي هي مركبة منها ، وجميع الأجسام التي على سطحها أو التي تكون بعيدة عنا ، وقد ثبت بالتجارب أن قوة الجذب تكون على حسب عكس مربع المسافة وحينئذ تكون كرة الأرض عبارة عن جملة جزئيات منضمة إلى بعضها بالقوة الجاذبة إلى المركز ، والظاهر أن شكلها الكروي يدل على أن هذه الجزئيات كانت تنزلق على بعضها فانجمع أغلبها نحو المركز.
(الدليل الثاني) : في تحركها أيضا قول علماء الهيئة أن الكرة مفرطحة أي منبعجة قليلا جهة قطبيها ومنتفخة جهة خط الاستواء ، وقد ثبت هذا التفرطح بالمشاهدة وبحركة البندول والاهتزازية أيضا الآتي شرحه فإن عدها في زمن مقدر معلوم يكون أكثر جهة القطبين منه في خط الاستواء ، ونصف قطر الأرض في خط الاستواء يبلغ أربعة آلاف وثلاثمائة ميل وخمسة أميال تقريبا وبجوار القطبين أربعة آلاف ومائتي ميل وتسعين ميلا تقريبا ، فيكون الفرق بين قطرها الاستوائي وقطرها القطبي خمسة عشر ميلا ، ويتضح من ذلك أن كرة الأرض لم تكن جزئياتها المادية منضمة كما هي الآن ، بل كانت متحركة تنزلق على بعضها فأثرت فيها القوة المركزية الطاردة الناشئة عن حركتها اليومية ، فأحدثت انتفاخا في كتلتها نحو خط الاستواء وانبعاجا نحو القطبين ، ثم تصلبت هذه الجزئيات بعد ذلك وحينئذ يعلم أن الأرض كانت سائلة في ابتداء خلقتها ، وقد قلنا : إن مركز الأرض لا تزال فيه درجة الحرارة المرتفعة جدا تتجاوز كل ما يتصوره العقل وقدرها بعضهم على وجه التقريب فقال إنها مائة ألف وخمس وتسعون ألف درجة ، ويمكن أن يقال : إن جميع المواد الداخلة في تركيب الأرض كانت ابتداء على حالة غازات أو أبخرة بتأثير هذه الحرارة الشديدة كما قررنا ذلك في تفسير قوله