معنى آخر ، وهو إيصال معنى الفعل إلى معموله بواسطة حرف الجرّ ، وهي بهذا المعنى متحقّقة في جميع موارد حروف الجرّ ، وذهب ذلك على بعض من عاصرنا ، ففسّر التعدية في هذا المقام بهذا المعنى الثاني ، وهو وهم منه ، قال ابن هشام : وتسمّي بالنقل أيضا ، وهي المعاقبة للهمزة في تصيير الفاعل مفعولا ، وأكثر ما تعدّي الفعل القاصر ، تقول في ذهب زيد : ذهبت بزيد وأذهبته ومنه : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) [البقرة / ١٧] ، وقرئ أذهب الله بنورهم ، وقول والسهيليّ : إن بين التعديتين فرقا مردود بالآية. ومن ورودها مع المتعدّي (دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) [البقرة / ٢٥١] ، وصككت الحجر بالحجر ، والأصل دفع بعض الناس بعضا ، وصكّ الحجر الحجر ، انتهى.
الثالث : الاستعانة ، وهي الداخلة على آلة الفعل حقيقة ، نحو : كتبت بالقلم ، ونجرت بالقدوم ، أو مجازا ، قيل : ومنه باء البسملة ، لأنّ الفعل لا يتأتّي على الوجه الأكمل إلا بها.
الرابع : السّببيّة ، نحو : (إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ) [البقرة / ٥٤] ، (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) [العنكبوت / ٤٠] ، ومنه : لقيت بزيد الأسد ، أي بسبب لقائي إيّاه.
الخامس : المصاحبة ، وهي الّتي تصلح في موضعها مع ، أو يغني عنها وعن مصحوبها الحال ، نحو : (دَخَلُوا بِالْكُفْرِ) [المائدة / ٦١] ، أي معه أو كافرين ، قال ابن هشام في المغني : وقد اختلف في الباء من قوله تعالى : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) [غافر / ٥٥] فقيل : للمصاحبة ، والحمد مضاف إلى المفعول ، أي فسبّحه حامدا له ، أي نزّهه عمّا لا يليق به ، وأثبت له ما يليق به ، وقيل للاستعانة ، والحمد مضاف إلى الفاعل ، أي سبّحه بما حمد به نفسه ، إذ ليس كلّ تتريه بمحمود ، ألا ترى أنّ تسبيح المعتزلة (١) اقتضي تعطيل كثير من الصفات ، انتهى.
قال شيخ شيوخنا الحرفوشي (ره) في اللآلى الدريّة بعد نقله ذلك : لا يخفى عليك أنّ المعتزلة ومن وافقهم لم ينفوا الصفات رأسا حتى يلزم التعطيل ، بل نفوا زيادتها ، فقالوا : سمعه عين ذاته ، قدرته عين ذاته ، وكذلك البواقي ، وهذا لا يستلزم ذلك ، بل أدلّ على التتريه ، لأنّ القول بالزيادة يؤدّي إلى محذورات تقتضي عكس ما أرادوا من التتريه ، كما هو المقرّر في علم الكلام ، فليراجع ثمة ، انتهى.
__________________
(١) طائفة بدأت دينية فقط ثمّ خاضت في السياسة ، وقد نشأت إثر اعتزال واصل بن عطاء (ـ ١٣١ ه) أستاذه الحسن البصري (ـ ١١٠ ه) لاختلافهما في بعض المعتقدات ثمّ صار المعتزلة شيعا ومن أعلامهم الجاحظ والتوحيدي والزمخشري. مغني اللبيب ص ١٤٠.