فالاسم ما أنبأ عن المسمّى ، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمّى ، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل ، ثمّ قال لى : تتبعه ، وزد فيه ما وقع لك ، واعلم يا أبا الأسود ، أنّ الاشياء ثلاثة ، ظاهر ومضمر ، وشئ ليس بظاهر ولا مضمر ، وإنّما تتفاضل العلماء في معرفة ما ليس بظاهر ولا مضمر.
قال أبو الأسود فجمعت منه أشياء ، وعرّضتها عليه ، فكان من ذلك حروف النصب ، فذكرت منها «إنّ وأنّ وليت ولعلّ وكأنّ» ولم أذكر «لكنّ» فقال لى : لم تركتها ، فقلت : لم أحسبها منها ، فقال : بلى هى منها ، فزدها فيها ، انتهى.
ثمّ من عناية الله سبحانه بهذه اللغة أن قيّض لها في كلّ زمان قوما يبحثون عن حقائق هذا العلم ودقائقه ، حتّى صنّفوا فيه الكتب المعتبرة والرسائل المحرّرة ، وأشرب القلوب محبّة هذا العلم حتى أنّه يتعلّمه من ليس من العرب ، ولا له غرض في إصلاح لغتهم لطفا من الله تعالى بهذه اللغة الشريفة ، لئلا تضيع أو تختلّ قواعدها ، فبقيت على مرّ الزمان ، وهى مشيّدة الأركان ، وما أحسن ما أنشده العلّامة أثير الدين أبو حيان لنفسه من قصيدة طويلة يمدح فيها النحو وسيبويه والخليل (١) ثم خصّها بمدح ابن الأحمر : (٢) [من الطويل]
٤ ـ هو العلم لا كالعلم شئ تراوده |
|
لقد فاز باغيه وأنجح قاصده (٣) |
وما فضّل الإنسان إلا لعلمه |
|
ولا امتاز إلا ثاقب الذهن واقده |
وقد قصرت أعمارنا وعلومنا |
|
يطول علينا حصرها ونكابده (٤) |
وفى كلها خير ولكنّ أصلها |
|
هو النحو فاحذر من جهول يعانده (٥) |
وناهيك من علم علىّ مشيّد |
|
مبانيه أكرم بالّذي هو شايده (٦) |
وما زال هذا العلم تنميه سادة |
|
جهابذة تختاره وتقاصده (٧) |
__________________
(١) الخليل بن أحمد الفراهيديّ البصريّ صاحب العربيّة والعروض ، وهو أستاذ سيبويه. وله كتاب «العين». بغية الوعاة ، ١ / ٥٥٧.
(٢) إسماعيل بن يوسف الخزرجيّ المعروف بابن الأحمر ، مؤرخ أريب ، من كتبه «نثر الجمان» و... مات سنة ٨٠٧ ه. الأعلام للرزكلي ، ١ / ٣٢٩.
(٣) اللغة : تراوده : تطلبه. الباغي : الطالب.
(٤) اللغة : الحصر : الإحصاء. نكابد : نقاسي شدّته.
(٥) اللغة : يعانده : يخالفه.
(٦) اللغة : ناهيك : كافيك. شائده : رافعه.
(٧) اللغة : السادة : جمع السّيّد. الجهابذة : جمع جهبذ أي النّقّاد الخبير بغوامض الأمور.